بقلم:إبراهيم الزبيدي
قد يكون العراق هو الوطن الأكثر، من بين دول المنطقة وربما العالم، تعرضًا للغزوات والثورات والانتفاضات والكوارث والنكبات، حتى أصبح مضرب المثل في الحزن الطاغي على مكونات الشخصية العراقية كلها. فمنذ قرون قبل ميلاد السيد المسيح، والعراقيون لا يودّعون غازيًا أجنبيًا إلا ليستقبلوا غازيًا آخر. والثابت تاريخيًا أن الحزن العراقي وُلد في زمن الحروب الإخمينية الفارسية التي انتهت باحتلال بابل عام 536 قبل الميلاد، وتدميرها بمساعدة اليهود الذين كانوا أسرى مهجّرين من أورشليم. ثم جاءت جيوش الإسكندر الأكبر عام 330 قبل الميلاد لتفتك بجيوش فارس في العراق وتمزق فلولها. ولم تهدأ الحروب بين الروم والفرس على أرض الرافدين وحولها قرونًا طويلة. وفي أواخر القرن السادس الميلادي اندلعت معارك طاحنة بين القبائل العربية والفرس على أرض العراق، انتهت بانتصار العرب. وبعدها بقليل، وفي أوائل القرن السابع الميلادي، ظهر الإسلام وباشر فتوحاته، وكانت أولى وأهم تلك الفتوحات خارج الجزيرة العربية هي فتح العراق وإسقاط الإمبراطور يزدجرد كسرى الفرس، ثم الانطلاق من العراق نحو الشرق واكتساح أراضي الدولة الفارسية بالكامل.
ثم كان سقوط الإمبراطورية الفارسية دافعًا لنشوء الحركات السرية المعادية للعرب في إيران، لتنتقل إلى العراق، ومنه إلى دول الجوار الأخرى. ومنذ أن ظهر الاختلاف بين أنصار الإمام علي بن أبي طالب وأنصار خلافة أبي بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب، دأبت الحكومات الفارسية الإيرانية المتعاقبة على اتخاذ العراق ساحة لتصفية حساباتها مع العرب المسلمين، انتصارًا لآل البيت الذين انتُزعت منهم الخلافة.
منذ آلاف السنين لم يعرف العراقيون استقرارًا طويلًا فكلما رحل غازٍ جاء آخر، وكلما انتهت حرب اندلعت أخرى، حتى صار الحزن جزءًا من تكوين الشخصية العراقيةوما شهده عصر الخلفاء الراشدين من حروب دينية ومذهبية وقومية مدمرة لم يتوقف في العراق منذ ألف وأربعمائة عام، وإلى اليوم. من أبرزها وأخطرها موقعة الجمل التي يُقدّر المؤرخون عدد قتلاها بأربعين ألفًا، والتي وقعت في البصرة عام 656 ميلادية بين قوات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وجيوش الصحابيين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأم المؤمنين عائشة، التي كانت في هودج من حديد على ظهر جمل، فسُمّيت الموقعة بموقعة الجمل.
وبعد هيمنة الأمويين على العراق بدأ حزن عميق آخر يغزو حياة العراقيين، تعاظم في أعقاب مجزرة الطف في كربلاء التي استُشهد فيها الإمام الحسين وأسرته على أيدي جيوش يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وفي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، عام 689 ميلادي، بدأ عهد الحجاج بن يوسف الثقفي المرسل لقهر العراقيين وإجبارهم على بيعته. ومعروف كم كان عنيدًا وسريعًا في سفك الدماء بأدنى شبهة، وما زال العراقيون يلعنوه كلما ذُكر في مجالسهم إلى اليوم.
وفي عز أيام الدولة العباسية (العراقية) التي يُقال إنها كانت أيام عز ورفاه وغناء وموسيقى وثراء، لم يكن العراقيون يعرفون الفرح إلا أيامًا معدودة، تعقبها أيام خوف ودم واقتتال بين الدولة ومعارضيها. ومن أبرز النكبات التي حلّت بالعراق ثورة الزنج في البصرة عام 896 ميلادي، ثم دولة القرامطة عام 899 ميلادي، اللتان كانتا من أكثر حركات التمرد العراقية عنفًا ودموية.
ثم أصبح حزن العراقيين أكبر وأوسع وأشد حين تعرضت بغداد عام 1258 للغزو المغولي الذي دمّرها بعد أن كانت حاضرة الدنيا بعلومها وآدابها. وبعد عامين من ظلم المغول وقهرهم وجبروتهم، وتحديدًا في 3 أيلول/سبتمبر 1260، دحرهم السلطان المملوكي سيف الدين قطز في معركة عين جالوت بفلسطين، حيث انتصر على جيش التتار المغولي بقيادة هولاكو. وكان المؤمل أن يفرح العراقيون بزوال كوابيس المغول، لكن تيمورلنك فاجأهم بغزو جديد لبلادهم، فدمّر بغداد وقتل نحو عشرين ألفًا من المدنيين العزّل، بل أمر كل جندي بأن يعود إليه ومعه رأسان من رؤوس العراقيين.
وفي القرن الخامس عشر تمكنت قبائل الخروف الأسود (القرة قوينلو) من احتلال العراق بقيادة بهرام خواجة. وفي سنة 1467 ميلادي تمكنت قبائل تركية أخرى تُسمى بالخروف الأبيض (آق قوينلو) من احتلال العراق، حيث هزم أميرهم حسن الطويل جيش قبائل الخروف الأسود. إلا أن الصراع على أرض العراق لم يتوقف، فقد تحدثت كتب التاريخ عن استمرار النزاعات فيه على السلطة بين قبائل الخروف الأسود والخروف الأبيض، وانتهى حكم هذه القبائل بعد أن تمكن إسماعيل الصفوي من احتلال العراق عام 1509.
هذا هو المسلسل المتصلة حلقاته الدامية الذي جعل الحزن في حياة العراقيين مكونًا أساسيًا من مكونات الشخصية العراقية. وبعد كل هذا التاريخ المزدحم بالنكبات والكوارث والحروب، يبرز السؤال الملح: متى سوف يفرح العراقيون؟ الله أعلم










































