الطائفية المستوردة: حين فشل العملاء في صناعة الانقسام
آخر تحديث:
بقلم:د. نوري حسين نور الهاشمي
حين تعرّض مرقد الإمامين العسكريين في مدينة سامراء المقدّسة إلى الاعتداء الغادر، كانت تلك اللحظة أخطر امتحانٍ لوحدة العراق بعد الاحتلال. ففي الوقت الذي هلّل فيه بعض العملاء ممن ارتضوا أن يكونوا أدوات بيد المحتل لإشعال نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، وقف المرجع الأعلى السيد علي السيستاني (قدّس سره) ليقول كلمته الخالدة: السُّنّةُ أنفسنا. كلمتان فقط، لكنهما كانتا كفيلتين بإطفاء حريقٍ سياسي ومذهبي كاد أن يحرق الأخضر واليابس. تلك العبارة لم تكن مجرّد موقفٍ ديني، بل كانت موقفًا وطنيًا شاملاً، يعكس عمق فهم المرجعية لمخطط الاحتلال الساعي لتفكيك العراق من الداخل بعد أن عجز عن إخضاعه عسكريًا. إنّ مشروع الفتنة لم يكن وليد لحظة سامراء، بل هو جزء من استراتيجيةٍ أوسع استثمرت فيها قوى الاحتلال وأدواتها المحلية كلّ الوسائل الممكنة لتفتيت المجتمع العراقي: إعلامًا، وأموالًا، وساسةً بلا ضمير. غير أنّ التجربة أثبتت أنّ نسيج هذا الشعب أعمق من أن يُخترق بخطابٍ طائفي. فالوعي الشعبي العراقي الذي صقلته مئات السنين من التعايش بين المذاهب والأديان والقوميات، كان وما زال صخرةً تتحطّم عليها كلّ مؤامرات التفريق. ولعلّ المشهد الإنساني الذي خلد في الذاكرة العراقية يوم قفز ابن الأعظمية إلى نهر دجلة لإنقاذ غريقٍ من الكاظمية، يختزل معنى العراق في لقطة واحدة. لم يسأل الغريق عن طائفة مُنقِذه، ولم يسأل المنقِذ عن مذهب الغريق. كان الموقف أصدق من كل الخطب السياسية التي ترفع شعارات الوحدة في النهار وتدير مؤامراتها في الليل. إنه مشهدٌ يتحدث عن عراقٍ آخر: عراقٍ لا يُختزل بالهويات الضيقة، بل بالشهامة التي تسكن القلب العراقي منذ فجر التاريخ. وعندما اشتدّ القصف الإيراني على مناطق البصرة إبّان الحرب، نزح بعض أهلها إلى المدن الغربية فعاشوا هناك مكرَّمين معزَّزين. وبعد سنوات، حين احتلّ داعش مناطق الغرب، نزح أبناؤها إلى مدن الجنوب والوسط، فاحتضنهم العراقيون كما يحتضن الجسد جراحه. بل حتى في مجزرة سبايكر الرهيبة، التي أراد منها الإرهابيون أن تكون وقودًا للانقسام، برزت قصص بطولية لنساءٍ عراقيات آوين الناجين وأطعمنهم وساعدنهم على الوصول إلى برّ الأمان. هذه الصور ليست حوادث فردية، بل شواهد على أنّ التلاحم العراقي أقوى من كلّ ما أنفق عليه الأعداء من أموالٍ وسلاحٍ وإعلام. في المقابل، واصل الخونة المأجورون تغريدهم الطائفي بإيعازٍ من الخارج، ورقصت حولهم أقلامٌ باعت ضمائرها للدرهم والدولار. أقام المحتل لهم قنواتٍ تلفزيونية وصحفًا ومنابر مهمتها واحدة: بثّ السمّ في جسد الوطن. وعلى مدى عشرين عامًا من هذا النعيق الإعلامي، لم يتمكّنوا من زعزعة شعرةٍ واحدة من وحدة العراقيين. لقد فشلوا لأنهم لم يفهموا أن العراق ليس تركيبةً هشّة تُدار بالأزمات، بل حضارة تمتدّ في عمق التاريخ، وأنّ الهوية العراقية أوسع من أن تُختزل في طائفةٍ أو مذهبٍ أو حزب. وحين تمددت عصابات داعش في ثلث مساحة البلاد، تكررت المؤامرة نفسها بوجهٍ جديد. سُمح للتنظيم بالتمدد والقتل والدمار في محاولةٍ لتقسيم العراق وفرض واقعٍ طائفيّ جديد. لكنّ المرجعية قرأت المشهد قراءةً واعيةً، فأطلقت فتواها التاريخية بـ«الجهاد الكفائي» التي هزّت الوجدان الوطني، وأيقظت روح المقاومة في كلّ بيتٍ عراقي. وُلد الحشد الشعبي من رحم تلك الفتوى، فتحوّل من استجابةٍ دينية إلى ملحمةٍ وطنية حقيقية، شارك فيها أبناء كلّ المكوّنات تحت رايةٍ واحدة، هي راية العراق. لقد ظنّ العملاء أن بوسعهم ركوب الموجة الوطنية لتوظيفها سياسياً، فحصدوا مقاعد ومناصب ومكاسب مؤقتة. غير أن أغلبهم من مزدوجي الجنسية الذين أقسموا بالولاء لدولٍ أخرى، لا للعراق. تلك المفارقة تضعهم أخلاقيًا وسياسيًا في موضع الشبهة: فكيف يمكن لمن قدّم قسم الولاء لأرضٍ أخرى أن يخدم مصلحة العراق وهو في موقع القرار؟ إنها معضلة السيادة حين تُختزل في شعاراتٍ فارغة بينما الواقع السياسي مرتهنٌ للخارج. واليوم، ونحن نقترب من ما يسمّونه “الاستحقاق الانتخابي” ويسمّيه الشعب “المسرحية المكرّرة”، تعود نغمة التخويف الطائفي من جديد. فالأحزاب الحاكمة تُدرك أنّها فقدت ثقة الشارع، وأنّ رصيدها الشعبي استُهلك بالفساد وسوء الإدارة. لذلك تلجأ إلى أخطر سلاحٍ في جعبتها: إشعال المخاوف. فتقول للناخبين: إمّا أن تختاروا الفاسدين، أو تعود داعش. وإمّا أن تصوّتوا، أو تكونوا ضدّ المرجعية. هكذا تُختَزل المرجعية في الدعاية، وتُختزل الوطنية في بطاقة اقتراع. لكنّ الشعب العراقي بات أكثر وعيًا من أن يُخدع بهذه الأساليب. فالمواطن اليوم يدرك أنّ الديمقراطية الحقيقية لا تأتي عبر صناديقٍ يُشرف عليها الفاسدون، ولا عبر حملاتٍ تُموّل من الخارج، بل عبر مشروع وطنيّ صادق يحرّر القرار العراقي من هيمنة السفارات وأجندات القوى الأجنبية. ولذلك فإنّ رفض المشاركة في اللعبة القديمة لا يعني انسحابًا من الوطن، بل هو شكل من أشكال المقاومة السلمية ضدّ تزييف الإرادة الشعبية. لقد حاول المحتل، طوال عقدين، أن يجعل من العراق ساحة صراعٍ دائم بين مكوّناته، لكنه لم يجنِ سوى الخيبة. فكلّما اشتعلت نار الفتنة، أطفأها وعي الناس ووقار المرجعية، وكلّما تآمر العملاء، انكشفت وجوههم أمام الشعب. فشلوا لأنّهم لم يفهموا أنّ العراق ليس ساحةً لتصفية الحسابات، بل روحٌ واحدة تسكن في أجسادٍ متعددة. إنّ الدرس العراقي في مواجهة الطائفية المستوردة هو درسٌ في الوعي الجمعي، لا في السياسة فقط. لقد أثبت العراقيون، بمرجعيتهم وشعبهم وجيشهم، أنّ الوحدة ليست شعارًا يرفع في المناسبات، بل مسؤوليةٌ تُحمَل في الضمير. وإذا كان العملاء قد فشلوا في صناعة الانقسام، فذلك لأنّ العراق قد اختار أن يكون أكبر من جراحه، وأوعى من خُطط أعدائه.اليوم، ما يحتاجه العراق ليس انتخاباتٍ جديدة بوجوهٍ قديمة، بل مشروع وطني يعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، ويُعيد للديمقراطية معناها الحقيقي. فالأوطان لا تُبنى على الخوف، بل على الوعي. والوعي العراقي الذي أسقط الطائفية بالأمس، قادرٌ على أن يُسقط الفساد غدًا، ويكتب صفحةً جديدة من تاريخ هذا البلد الذي وُلد من رماد الحروب ولم يفقد يوماً إيمانه بالحياة