العراق بين العجز التجاري وهدر المال العام

العراق بين العجز التجاري وهدر المال العام
آخر تحديث:

بقلم: سعد الكناني

يعاني العراق من عجزٍ مزمن في الميزان التجاري غير النفطي، رغم تحقيقه أحياناً فوائض ظاهرية بسبب صادرات النفط الخام. هذا الخلل ليس اقتصادياً فحسب، بل سياسياً–بنيوياً تتحمل الحكومة مسؤوليته المباشرة، للأسباب الآتية:

1. اقتصاد ريعي أحادي

أكثر من 90٪ من إيرادات الدولة تأتي من النفط، فيما تُهمَل الزراعة والصناعة عمداً، ما يجعل الاستيراد بديلاً دائماً عن الإنتاج المحلي، حتى وصلت استيرادات العراق أكثر من 70 مليار دولار سنوياً حسب تصريح رسمي سابق لرئيس الوزراء محمد السوداني وأكد عليه محافظ البنك المركزي العراقي على العلاق يوم 17/12/2025، قائلاً “إن محدودية التنوع الاقتصادي وضعف القطاعات الإنتاجية جعلا العراق بلدًا مستوردًا بامتياز”.

2. سياسات حكومية استهلاكية

الحكومات المتعاقبة ركزت على الرواتب والدعم والإنفاق الجاري، دون أي استراتيجية حقيقية لتنمية القطاعات الإنتاجية أو إحلال الواردات.

3. فتح السوق بلا حماية

العراق تحول إلى سوق مفتوحة لبضائع دول الجوار (خصوصاً إيران وتركيا)، دون تعرفة جمركية فعالة أو مواصفات قياسية، ما دمّر المنتج الوطني وعمّق العجز التجاري.

4. الفساد والتهريب

المنافذ الحدودية خارج السيطرة الفعلية للدولة، وتُستنزف مليارات الدولارات سنوياً عبر تهريب العملة وفواتير استيراد وهمية.

5. التبعية السياسية والاقتصادية

القرار الاقتصادي مرتهن لقوى سياسية مرتبطة بالخارج، ما يجعل استمرار العجز التجاري جزءاً من معادلة الهيمنة لا نتيجة فشل تقني فقط.

إن العجز المزمن في الميزان التجاري ليس قدراً اقتصادياً، بل نتيجة مباشرة لسياسات حكومية فاشلة وخضوع سياسي، حوّل العراق من بلد منتِج إلى مستورد دائم، ومن دولة ذات سيادة اقتصادية إلى سوق استهلاكي تابع. كما أن الحكومة أهدرت المال العام عبر التوسع غير المنضبط في النفقات التشغيلية، وتحويل الوظيفة العامة إلى أداة ترضية سياسية وانتخابية، لا إلى حاجة إدارية أو إنتاجية. فقد جرى تضخيم الجهاز الوظيفي إلى مستويات غير قابلة للاستدامة، ما حوّل الموازنة إلى موازنة رواتب لا موازنة تنمية.

وفي موازاة ذلك، لجأت الحكومة إلى الاقتراض الداخلي والخارجي لسد عجز ناتج عن سوء الإدارة لا عن ظرف طارئ، والأخطر من ذلك أن هذا الاقتراض لم يُستخدم لإصلاح الخلل الهيكلي في الاقتصاد، بل لتغذية نظام الريع والفساد والمحاصصة، فباتت الدولة تقترض لتدفع رواتب وتغطي نفقات استهلاكية، في سابقة تعكس إفلاساً مالياً ورؤية حكومية قصيرة الأمد.

ما يجري ليس سوء تقدير، بل سياسة إفقار ممنهجة، تُدار بعقلية البقاء في السلطة لا بعقلية بناء الدولة، وتُفرغ المال العام من وظيفته التنموية وتحوله إلى أداة ضبط سياسي وشراء ولاءات.

والمفارقة الأخطر أن الحكومة منحت إعفاءات ضريبية وجمركية واسعة للصادرات الإيرانية إلى السوق العراقية، في وقتٍ لا يمتلك فيه العراق أي صادرات حقيقية تُذكر خارج النفط الخام. وبذلك تحولت العلاقة التجارية إلى طريقٍ باتجاه واحد: عملة صعبة تخرج من العراق، وبضائع تدخل إليه دون مقابل إنتاجي. هذا الإعفاء لم يكن إجراءً اقتصادياً عقلانياً، بل قراراً سياسياً بامتياز خدم الاقتصاد الإيراني على حساب الاقتصاد الوطني، وأسهم في تعميق العجز التجاري، وخنق أي فرصة لنهوض الصناعة والزراعة العراقية، اللتين لا تستطيعان منافسة سلع معفاة من الضرائب ومدعومة في بلدها الأصلي.

النتيجة أن العراق لم يعد شريكاً تجارياً، بل مموِّلاً غير مباشر للاقتصاد الإيراني، بينما يُترك المنتج المحلي بلا حماية، وبلا تمويل، وبلا سياسة إحلال واردات. وهكذا تتكرس معادلة خطيرة، منح الإعفاءات للصادرات الإيرانية في ظل غياب صادرات عراقية مقابلة، ليس خطأ فنياً، بل اختلال مقصود في الميزان التجاري، يعكس تبعية القرار الاقتصادي ويكشف ارتهان الحكومة لإرادة خارجية.

لكن بكل الأحوال، فإن الحكومة القادمة، سواء تم إعادة تكليف رئيس الحكومة الحالي او تكليف شخص آخر، ستواجه اختبار مالي عسير يجبرها على تطبيق المزيد من الإجراءات القاسية والمؤلمة، قد يكون فيها التقشف المالي سيد الموقف خلال السنوات الأربع القادمة. فقد وصل البلد مالياً واقتصادياً الى مفترق طرق لم يعد ممكناً فيه اي تهاون او تسويف او تلاعب، فإما انضباط مالي وإصلاح اقتصادي وإما انتظار ما هو أسوء، وحينها قد تكون الفرصة قد فاتت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *