آخر تحديث:
ثمة موقفان، قد يسميهما البعض خندقان، الأول يسعى لإضعاف المركز، بزعم الخشية من عودة الديكتاتورية، وعدم حصر المسؤليات بجهة واحدة، وتعزيز اللامركزية التي تعني إشراك الجميع في إدارة الدولة، والآخر يدعو إلى تقوية المركز، وعدم المساس بصلاحياته، بزعم الحفاظ على وحدة العراق وقوته، وعدم إضعافه وتهميش دوره .
وهذان الموقفان يتضمنان طيفاً واسعاً، تتباين فيه المواقف أشد التباين، وتتنوع فيه الدوافع أشد التنوع، ولم يتبلور لحد الآن موقف ثالث، مع أن الحاجة ماسة إليه، موقف عملي يتيح أقصى درجات حرية إدارة قادة المحافظات لمحافظاتهم، عبر نظام اللامركزية الإدارية، ويمنح المركز كل ما هو سيادي وسياسي، كالجيش والشرطة والأمن، والسياسة الخارجية، والعدل، والتعليم الموّحد تخطيطاً ومناهجاً، مع القليل القليل من الأمور الخدمية، تلك التي يتعذر إعمالها بشكل مجزي وإيجابي من دون تخطيط مركزي وشامل، كالكهرباء، والسدود والري، والسكك والطرق، والبريد والبرق، مع نظام موحد للعمل والتقاعد والضريبة، وقبل هذا وذاك إحتكار الحكومة المركزية حصرياً للنفط والغاز، إستثماراً وإستخراجاً وتصرفاً، وتوزيع عائداتهما توزيعاً عادلاً على المحافظات وفق النسب السكانية وكما هو معمول به حالياً، بعد إجراء التصحيحات اللازمة، ومن دونما مجاملة أو محاباة لأي كان.
من المؤكد ان البعض بحجة الحيلولة دون عودة الدكتاتورية يستهدف أساساً- وربما عينه على دول الخليج- تحويل العراق إلى مجموعة من الحكومات، التي هي دول تحت التأسيس، وهو يعمل بوعي وبصيره لتحقيق هذا الهدف، مع أن تهشيم الحكومة المركزية أو إضعافها لا يحول دون إنشاء عشرين دكتاتورية مثلاً، فالحيلولة دون عودة الديكتاتورية لا تتم بتمزيق البلد، بل بسن قوانين ديمقراطية تحول دون إمكانية عودة إي نمط من الإستبداد، وليس الديكتاتورية التي أصبح الشعب العراقي مُحصناً منها، بعد أن ذاق ويلاتها.
مازلنا ولحد كتابة هذه السطور دولة واحدة موحدة، حتى مع وجود الإقليم الوحيد ( أقليم كردستان العراق ) فأبناء الإقليم إختاروا بمحض إرادتهم أن يكونوا ضمن العراق الإتحادي عبر إستفتاء على دستور البلد، ولقد كفل لهم الدستور جميع حقوقهم القومية، وما كفله الدستور لكردستان لا يشترط أن يكفله لأي إقليم يمكن أن ينشأ لاحقاً، وذلك لأن أي إقليم سينشأ من محافظتين أو أكثر، أو حتى من محافظة واحدة، سوف لن يُمنح (حقوق قومية)، وإلا فما هي الحقوق القومية التي يرغب إبن البصرة أو الأنبار بالتمتع بها، والتي كان محروماً منها؟
إن مسوغات إنشاء إقليم كردستان لا تتماثل مع تلك التي يدعوا لها دعاة الإقاليم في أي محافظة من محافظات العراق الأخرى، بإستثناء محافظة كركوك، حيث يبدو حل الإقليم حلاً مناسباً للخروج من دوامة الإحتراب، حيث تتقاسم المحافظة ثلاث قوميات كبيرة، وليس ثلاث أحزاب لقومية واحدة، أو مذاهب متعددة لدين واحد، وهذا يعني أن أي إقليم يمكن أن ينشأ في العراق سوف لن يكون ذا طابع قومي أو سياسي، ولا حتى ديني، وبالتالي فهو لن يكون وفي مطلق الأحوال إلا (جغرافي وخدمي ) وهذا يعني، ومن دونما لوي للحقائق، أو إبتداع للمصطلحات، لن يكون سوى نظام اللامركزية الإدارية، وهو نظام شائع ومُجرّب، يكفل إشراك أكبر قدر ممكن من المنتخبين بتسيير أمور محافظاتهم وأقضيتهم، ونواحيهم، والذين هم أعرف من غيرهم بشؤون مناطقهم، ومتطلبات هذه المناطق، وأحتياجاتها، وهم بداهة أحرص من غيرهم على خدمة هذه المناطق لأنهم سيواجهون صوت الناخب لاحقاً، بعد أربع سنوات، حيث تكون صناديق الإقتراع هي الحكم على أعمالهم.
لماذا لا يُسمي البعض الأشياء بمسمياتها ؟
لماذا يتجاهلون النظام اللامركزي وكأنه لا يلبي الطموح، مع أن ما يطرحونه لا يتعدى هذا الأمر، إذا إستثنينا المزايدات التي يُراد إستغفال الناس بها؟.
لماذا يذهبون لما يتوهمونه فدرالية، وما يدعون إليه لا علاقة له بالفدرالية، فهو في بعض جوانبه كونفدرالية، وأحياناً أكثر حتى من الكونفدرالية؟
والفدرالية، والكونفدرالية هما نظامان إتحاديان، بين دولتين أو أكثر، أو كيانين متمايزين أو أكثر، وهما ينطلقان من المُجزء إلى الموّحد، في حين أننا ننطلق من بلد موحد، عانى من الإستبداد، ويبحث عن أفضل الطرق لعدم الوقوع فيه مجدداً، وتجزئة أوتقسيم الموّحد، بأي زي تزينت لن تكون إلا نكوصاً وإرتداداً، ومهما كانت النوايا، فإن هذا المنحى يصب في خانة ما يريده من لا يريد لهذا الوطن، وهذه الأمة ، السير في طريق النهضة والإرتقاء.
في النظام اللامركزي تكون مجالس المحافظات، والمجالس المحلية ( مجالس الأقضية والنواحي)، وهي مجالس منتخبة بطريقة مباشرة، مجالس خدمية، مهمتها تقديم أفضل الخدمات للناس، وهي غير معنية بالسياسة العارية حتى لو كان أعضاؤها منتمين إلى أحزاب سياسية، وهم إن أرداوا خدمة أحزابهم فإن هذه الخدمة تأتي عن طريق واحد، ألا وهو تقديم أفضل الخدمات للناس عبر مواقعهم، وفي واقع العراق أريد لهذه المجالس محاكاة جميع الدوائر الخدمية الموجودة في المحافظة، بحيث تتشكل فيها لجان تختص بما تختص به كل مؤسسه أو دائرة، بدءاً من اللجنة الأمنية، والتربوية، وصولاً إلى اللجنة الرياضية، ولا بأس في هذا، بل هو ضروري جداً إن كان من أجل المتابعة، ومراقبة حسن الإداء، إما إذا أريد أكثر من هذا ، فإن ثمة إشكالات عديده ستواجه هذه اللجان في التطبيق العملي .
ما هو عمل هذه اللجان ؟
يتصور البعض أن عملها تشريعي ورقابي كالبرلمان، ولهذا حاول البعض ربطها بالبرلمان ، متجاهلاً أنها في الأعم الأغلب سلطات تنفيذية خدمية وإجرائية، والبرلمان ليس كذلك، إذا هو سلطة تشريعية ورقابية حصراً.
أن تراقب هذه اللجان عمل الدوائر والمؤسسات أمرمفهوم، ولكن ماذا تشرّع ؟
ماذا تشرّع في المجال الأمني، أو التربوي، أو حتى الرياضي؟
وماذا تشرع في مجال الجنسية، أو الجوازات، أو الطابو، أو الصحة، أو حتى المواصلات والبريد؟
وهل عمل لجنة ما، ولنترك قضية التشريع المضحكة، ولنتحدث عن العمل والفعل والأثر، ولتكن اللجنة التي سنختارها هي اللجنة التربوية، ونتساءل هل يوازي عملها عمل مديرية التربية مثلاً؟!
يقولون أن المحافظ يشرف على عمل الدوائر كلها، وهو بالإضافة إلى كونه يراقبها فإنه مسؤول عن إدائها، وقد أنتخب لهذا الأمر أساساً، وتحت إمرته موظفون مسؤولون عن كل المؤسسات والدوائر الخدمية، وهو منتخب من مجلس المحافظة أساساً، لكنه لا يدير هذا المجلس الذي يديره رئيس المجلس، وإنما يدير الدوائر والمؤسسات كافة، فهل يقبل أن يشاركة في إدارة هذه المؤسسات رئيس المجلس عبر مسؤولي اللجان المتعددة، وهل يصح هذا؟
هل مجالس المحافظات كما أشاعوا مجالس تشريعية؟
إذا كان الأمر هكذا فسيكون التشريع لكل محافظات القطر عبر هذه المجالس، والعراق يتشكل من محافظات، إذن لمن يشرّع البرلمان العراقي ياسادة ؟
أظنة سيشىرع لبلاد الواق واق.