رغم إن الخطاب الاعلامي الذي يسوقه المسؤولون في حكومة بغداد لتبرير الانهيار الأمني منذ عام 2003 ولحد اليوم يرميه على ” تنظيم القاعدة ” وهي عكازة الضعفاء والفاشلين , لدرجة إن المواطن العراقي الذي لا يحتاج الى ذكاء لفك طلاسم الأسباب الحقيقية وراء هذا الانهيار أخذ يتندر من تلك التبريرات رغم ضخامة مأساته الانسانية لعشر سنوات . وهنا لا نريد أن نبعد القاعدة عن أعمال العنف والتفجيرات ,بل إن هذا التنظيم الارهابي دائماً ما يستثمر المناخ والبيئة الهشة وتشابك الرؤية بين جهات عدة متورطة بالدم العراقي , لتنفيذ أهدافه اللئيمة . وليس جديداً القول بأن العراق نظيفاً منه بنسبة 100% قبل عام 2003 مثلما لم تعرفه الجارة سوريا قبل انفجار الثورة الشعبية قبل عامين ونصف . فالقاعدة صناعة المخابرات ألأمريكية في إفغانستان ثم انقلب عليها , وتحوّل الى بضاعة في سوق الحروب الطائفية المسّوقة في العالم العربي, وفي العراق بعد الاحتلال بصورة خاصة . وكل المعلومات المتداولة تشير الى أن إيران هي إحدى المنابع المصدرة لقادته الأوائل قبل أن تنمو قيادات محلية عراقية اندفعت لهذا التنظيم الارهابي , في استغلال للمقاومة المسلحة العراقية ضد الاحتلال , الذي وفرّ البيئة لانتعاش هذا التنظيم الى جانب جكومات ظل الاحتلال عن طريق قوانين الاجتثاث , وحملات القتل والاعتقال والتغييب للطبقة الوسطى العراقية من الكفاءات العلمية والمهنية التي بنت الدولة العراقية , ومن الظلم أن تحسب على النظام السابق .وإذا كان غرض الاحتلال اللوجستي في جلب أفراد القاعدة من إفغانستان الى العراق للانقضاض عليهم , في لعبة تتكرر اليوم في سوريا , فقد وجد هذا التنظيم الارهابي إن فرصته أسهل في العراق من إفغانستان في استهداف الجنود الأمريكان , وحصل ذلك التشابك المعقد ما بين المقاومة الشعبية المسلحة التي كان هدفها طرد الاحتلال من الأرض العراقية , وبين استراتيجية القاعدة التي توفرت أمامها الحاضنة في البيئة العربية ” السنية ” في مخادعة مررت على المقاومة العراقية التي فقدت الكثير من سمعتها , خصوصاً إن أطرافها السنية لم تنسق مع ” المقاومين الشيعة ” رغم ما قيل عن فتاوى بعدم المواجهة المسلحة مع الاحتلال الذي سلّم السلطة ” للشيعة في العراق ” حسب قولهم . هذا التشابك والخلط المتعمد ما بين المقاومة المسلحة وبين تنظيم القاعدة شجعه ويشجعه الأمريكان مرة ثانية في سوريا اليوم . فقد إنكشفت وبسرعة لعبة ” تنظيم النصرة ” في مواجهة ميدانية ضد الجيش السوري الحر بدفع إيراني أمريكي سوري من دون تنسيق مباشر بينهم . لقد سبق لقيادة الاحتلال الأمريكي عام 2006 المتمثلة بالجنرال ديفيد بترايوس أن صنعت تشكيلات ” الصحوات ” المسلحة لضرب القاعدة , ولاقت هذه الفكرة الذهبية الرواج داخل الحواضن العشائرية في الأنبار وصلاح الدين وبغداد والموصل بسبب الأذى من هذا التنظيم الارهابي , وقال بعض خبراء البنتاغون إن الهدف الأمريكي كان أيضاً خلق إنشقاقات داخل الأوساط العشائرية ( السنية ) . إلا أن الأحزاب ( الشيعية ) وجدت فرصتها في تشجيع مليشياتها ورعايتها مقابل ما إدعته من أن ” الصحوات ” هي ميليشيات ” سنية ” صنعها الأمريكان , وهنا وقع الشعب العراقي ضحية تلك اللعبة التي مهدت لحريق الحرب الطائفية 2006 و2007 , وتصاعدها في عملية تفجير مرقد ( الأمامين العسكريين في سامراء ) في شهر يونيو 2007 والتي أعترف الجنرال الأمريكي ” كيتسي ” أخيراً والذي سبق أن خدم في قيادة الجيش الأمريكي في العراق , بأن وثائقهم تؤكد تورط إيران في ذلك التفجير الاجرامي . ثم عادت فتنة الحرب الأهلية لتستيقظ من جديد هذه الأيام لتتصدر وسائل الاعلام المليشيات المسلحة (البطاط وعصائب أهل الحق ) التي تتوعد بالقتل والتدمير وتوزع المنشورات والتهديدات الى أهالي المناطق في بغداد خاصة . وكذلك عودة مناخ الإرهاب للنشاط بوتائر عالية في مسلسل التفجيرات الأخيرة في عموم محافظات العراق . دون إنتقاء ( سني أو شيعي ) . في ظل صمت حكومي بائس يشير الى التخلي عن حماية المواطن العراقي من الموت اليومي , وهو دليل يكفي لإسقاط أعتى حكومات العالم . وسط تصريحات باهتة من قيادات برلمانية تبدو تصريحات الجامعة العربية أكثر حميمية على الشعب العراقي منها . في وقت يعتقد المالكي إنه بأعادة نسخة الصناعة الأمريكية للصحوات في الأنبار بولاء لحكمه ستتمكن من القضاء على الاعتصامات الشعبية السلمية هناك وفي باقي المحافظات ( العربية السنيّة ) في الوقت الذي يحّذر في خطاباته من مخاطر الفتنة الطائفية , لكنه يرمي مسؤوليتها على طرف طائفي آخر , وهو منهج حزبي أكثر منه سياسة لرجل دولة لكل الشعب .
إن الواقع الميداني الأمني الذي إنهار في الأيام الأخيرة وانتعاش المليشيات المسلحة بصورة أقوى في لعبة إعلامية مكشوفة تدعي التطاول على الحكومة مع إن قياداتها تتفاخر بأنها تدعم هذه الحكومة في إجراءاتها وهناك تنسيق معها , ثم إعترافها بانتقال مقاتليها الى سوريا ” لحماية المراقد الشيعية ” إنما يشير للأسف الى مقدمات سريعة لاشتعال حريق الحرب الطائفية في العراق التي لم تنته عام 2007 , وبمخاطر أكثر لارتباطها بالوضع المتدهور في المنطقة . في حين إن أزمة العراق هي أزمة نظام الحكم السياسي والتركيبة الحزبية , والعلاقات التي انهارت بين أطراف العملية السياسية . وصراع القوى الطائفية القائم بسبب الحصص . ( الهيمنة مقابل التهميش ) وقد ساعد تطور الأوضاع في سوريا وانتقالها المدبّر من صراع داخلي مسلح على سلطة حكم فردي استبدادي دام بالوراثة لأربعين عاماً , الى صراع مصالح قوى دولية وإقليمية على تقريب توقيتات حريق الحرب الطائفية في العراق .. فإيران النافذة في العراق تصارع وبكل الإمكانيات لعدم خسران جناحها الغربي في لبنان بسقوط نظام بشار الذي يهدد مباشرة نفوذها في العراق ..إضافة الى تركيا أردوغان الذي لا يختلف عن خامئني إيران في محاولة بعث امبراطورية النفوذ الجديدة .. طالما إن لعبة الصراع الطائفي والعرقي خططت لها أمريكا في المنطقة لمشروعها الكبير الذي انهار من قاعدته الأولى في العراق , وبعد إنفتاح جسم المنطقة على إعادة توزيع وظائف رئيسية وفرعية لا تختلف من حيث الجوهر عن سايكس بيكو , بعد الذي حصل من مجازر ( سربرتيشا 1995 في البوسنة ) وغيرها التي دامت ست سنوات , وحرب ( كوسوفو عام 99 ) التي تتكرر في سوريا منذ عام 2011 وحتى اليوم , إنسحبت اليوم إدارة أوباما من المشهد في منتصف الطريق , تاركة القوى الاقليمية تتصارع , والتي لم تجرب لعبة النفوذ الكبيرة التي كانت تتقاسمها دول الامبراطوريات الاستعمارية ثم القطبين الرئيسيين بعد الحرب الثانية . لكن تداخلات أوضاع وعي شعوب المنطقة قد يعوّق ويعطل جميع المشاريع الإقليمية , وأصبحت التكلفة مزيداً من دماء الشعوب ونوم أبنائها في قبور جماعية أو في العراء وجوع وتشريد لمن ينامون على بحيرة من الذهب .. وكل الدلائل والمعطيات تشير الى تصاعد شحنات الأحلام بالزعامة العرقية والطائفية من لاعبين كبار تقاعدوا ويحاولون العودة الى الخدمة , أو لاعبين صغار شاهدوا الفراغ والتقطوا الفرصة , فالقيادة الكردية في العراق مثلاً وجدت نفسها جزءاً من الطبخة الكبيرة التي تنفذ في المنطقة والعراق داخلها , فلماذا لا تتحرك , وتستثمر الظروف المفككة في محاولة تنفيذ رغبتها في حلم الدولة الكردستانية من تخوم أعالي الفرات في سوريا , حيث وضح ذلك في عدم انضباط قيادة الاتحاد الكردي السوري الى جانب المعارضة السورية المسلحة , والتسرع في الدعوة الى قيام كيان أو دولة كردية في سوريا قبل حصول أي تحول أو انتقال للسلطة هناك , ودخولهم في قتال غير مبرر ضد الجيش السوري الحر.
إن الأنهيار الأمني في العراق أصبح أكبر من قدرة حكومة لا تنتخي لأبنائها بحقن دمائهم الزكية , وتتعاطى بهذه القضية الكبرى من منطلقات فئوية طائفية . فالحالة العراقية بحاجة الى حكومة وطنية قوية لكل الشعب العراقي . أمام عجز جميع الكتل السياسية في التعبير عن إرادة الشعب . ولعل الحل السياسي هو بيد هذا الشعب الصامد لمنع الانهيار الكبير , ولكي لا يمتد لهيب الحريق من سوريا الصامدة بوجه الموت الى العراق الذي أحترق جسده وبقى قلبه نابضاً لحد اللحظة.