حين غزت القوات الأمريكية العراق واحتلته قبل عشر سنوات، شرعت بتواطؤ مع مجلس الحكم بسن قانون اجتثاث البعث فكرا وشخوصا، مع أن دول العالم الحر كأمريكا ليس لديها قوانين تحجر على الفكر والمعتقدات، ولكنه الاستعمار البغيض وتدجين القيم وفق الأهواء، وقانون الاجتثاث ليس الأول من نوعه في العراق الذي مر بفترات عصيبة وحكومات ضيقة الأفق وتجارب مريرة، سلطة رفعت الحبال بوجه من يتعفلق، وثانية فرضت قانون تطهير الجهاز الحكومي حينا من الزمن، وثالثة اشترطت على من يوظف البراءة من الحزبية، وتجارب مؤلمة من الإقصاء والحجر على الانتماء الحزبي والفكر، وكلها لم تجد نفعا، ولم تمنع محاولات المقصيين المقهورين من الوثوب على السلطة، وثبت فشلها. اليوم فيما يدعى ويزعم أنه زمن الحريات والحكم الديمقراطي والفوضى الخلاقة لم نتعظ من التجارب البائسة الماضية، وسن ساسة العراق الجدد قانون اجتثاث البعث والآن قانون بتجريمه!
بدءا قانون الاجتثاث والتجريم لا تعنيني شخصيا بشيء، وربما كنت أحسب أيام البعثيين على المعارضة لا الموالاة، ولكني اعتدت في كتاباتي الترفع عن مناهضة الأفكار العداء أيا كانت، وأسعى للتعايش مع أفكار الأحزاب عامة بإيجابية، وأميز بين فكر الحزب ومبادئه التي تهم منتسبيه بالدرجة الأولى، وأعدها غير قابلة للتحريم والتجريم. أما مواقف قيادات الحزب وتصرفات قواعده، فهي المتغيرات المعنية بالاستحسان والاستهجان، فقد يكون فكر الحزب جديرا بالاحترام ومواقف القيادة خاطئة وتصرف القواعد والأفراد ممجوجة، وعليه ينبغي أن يوجه النقد والثواب والعقاب إلى من يخالف السلوك العام من الأفراد وفق قانون العقوبات، وليس منع الأفكار.
قد يحسبني قارئ حين أدافع عن الإسلاميين بمصر حينما تهضم حقوقهم في مقال أو أكثر أنني منهم، ويفاجأ أنني في مقال تال ويوم آخر أدافع عن العروبيين والبعثيين حين يجار عليهم كأنني منهم، والواقع أني أتعامل إنسانيا مع المواقف، فأرفض الظلم والباطل بلا تجريح، واستحسن ما هو خير وحق بلا استرسال في المديح المجاني. الصحافة المهنية صحافة رأي، وكل شعب فيه أحزاب وجماعات، والصحافة الحرة لا تعادي ولا تهادن، وإنما تنتقد بحكمة وتناقش وتقلب الأمور. والصحافي الكيس ينتصر لما يراه عادلا بغض النظر عن انتمائه الحزبي أو المذهبي، ولا أرى تشريع قانون باجتثاث الفكر وتجريم معتنقيه يتوافق مع الرؤية الديمقراطية وحرية المعتقد في شيء.
فكر البعث وأهدافه ومبادئه وشعاراته، ليس فيها ما يسيء إلى حرية الآخرين، ولا تتضمن عدوانية. أما تصرفات الأفراد الحزبيين وإساءاتهم، فكل منهم مسئول أمام القانون عن سلوكه وتصرفه شخصيا، والناس هي من تميز بين الأخيار والأشرار، وكنت أتمنى على السيد المالكي والساسة الذين حكموا العراق عشر سنوات بدلا من ذلك لو فتحوا لكل مسئول بعثي سابق ملفا، ومن أساء منهم فعليه وزر إساءته، والبريء إن لم يكرم يحترم، وألا يزروا وازرة وزر أخرى، فلا يجتث البعثي حتى لو كان بريئا، ولا يجرم فكر البعث على إطلاقه، إن إصدار هذا القانون بحد ذاته يشكل جريمة بحق الفكر وبحق الإنسانية وحرية الاعتقاد، وإذا جرمنا اليوم حزبا، نجرم غدا طائفة أو قومية أو حتى قطر بشعبه كما هو حاصل. في الحكم ليس هناك من لا يخطئ، والبعثيون إذا لم يعترفوا بأخطائهم جهارا يعترفون بقرارة أنفسهم بأخطاء وقعت أبان حكمهم، والاعتراف بالخطأ تكفير للذنب وقناعة ذاتية وليس مكرمة للآخرين يتشفون بها، ووسيلة ابتزاز وإذلال لأبناء البلد، وإذا كان لابد من التجريم عموما، فالأولى تجريم السراق والمفسدين الذين نخروا حكومة المالكي ذاتها وسلبوا أموال الناس واستأثروا بها من غير وجه حق قبل تجريم البعث بعد عشر سنوات من مغادرة السلطة، كان على السيد المالكي أن يجرم نفسه وحزبه؛ لأنه يعلم ما ارتكب هو ومن حوله ومواليه من جرائم ومخالفات سرقات واختلاسات ورشاوى وفساد وقتل واغتيالات وسجون وتعذيب وهو يغطي عليهم ويصمت، ولا يجرؤ أن يحاسب أحدا منهم أو ينبس بكلمة حق.
الساسة الحاكمون في العراق اليوم يريدون مع كل الأسف من قانون تجريم البعث رديفا لقانون الاجتثاث؛ ليجعلوا منه مسمار جحا، يجرمون ويجتثون من يشاءون من معارضيهم ويقربون ويعفون عمن يشاءون، وأكبر مثال نائب رئيس الوزراء نائب المالكي حاليا السيد صالح المطلق ورفاقه اجتثهم بقرار ثم عاد وعفا عنهم وقربهم بالمزاج، وآلاف من هذا النوع. ولا أخفي سرا قانون اجتثاث البعث طبق رسميا بحق العرب السنة فقط، واستثني منه الشيعة والأكراد، وتجريم البعث سيكون سيفا بيد الصفويين يسلط على رقاب العرب، وإقصاء وتصفية لكل عراقي له ميول قومية وكل معارض ملتزم بعروبته وطموحات أمته، هذا ما أريد له، ولعن الله الكذابين والمفترين.