الديموقراطية التوافقية… المحاصصة الطائفية القومية وخطرها على الدولة العراقية

الديموقراطية التوافقية… المحاصصة الطائفية القومية وخطرها على الدولة العراقية
آخر تحديث:

بقلم:زكي رضا

الديموقراطية كلمة لاتينية من مقطعين، الأوّل Demos وتعني الشعب، والثاني Kratos وتعني الحكم أو السلطة، وبالتالي فأنّ مفهوم الديموقراطية كمصطلح هو حكم الشعب. والديموقراطية على الرغم من تعريفها الواضح الا أنّها تتمايز في أشكالها من بلد لآخر تبعا لتطور مجتمعات تلك البلدان أو تخلفها ثقافيا، وكذلك على مبدأ العدالة الإجتماعية والإستقرار السياسي اللتان ترسّخان مبدأ التداول السلمي للسلطة من خلال آليات ديموقراطية تتطور بإستمرار.

التشريعات التي فتحت الطريق للتطور الديموقراطي في بريطانيا وحاجتنا لها

أنّ الديموقراطية البريطانية العريقة على سبيل المثال شهدت في العام 1868 تشريع وإصدار جملة قوانين لإصلاح المشاكل الإجتماعية والإدارية من قبل البرلمان، وهذه القوانين فتحت الباب واسعا لتطور العملية الديموقراطية بالبلاد. ولم يطل الأمر كثيرا للبدأ بإصلاحات جذرية تهم قطاعات واسعة من الجماهير من قبل البرلمان وقتها، ففي العام 1870 أي بعد سنتين فقط سنّ البرلمان البريطاني قانون الخدمة المدنية الذي فتح الابواب مشرعة ليتولى الكفوءين المناصب الإدارية بالبلاد، بعدما كانت هذه المناصب من حصة علية القوم او من الذين يستطيعون شرائها! ويبقى قانون التعليم الذي سُنّ في نفس العام ليحد من سطوة المدارس الكنسية وليشيع نظام تعليمي جديد من خلال مدارس تدعمها الحكومة، قفزة هائلة في تحديث التعليم الذي خطا خطوات جبّارة للأمام من خلال تعليم أطفال الطبقات الفقيرة، والذي ساهم في تغيير اللوحة الإجتماعية بالبلاد.

طرحنا سن قانون الخدمة المدنية وقانون التعليم، ليس لمقارنة الديموقراطية البريطانية العريقة والتي تتطورت خلال قرنين من الزمن لتصل الى ما هي عليه اليوم بـ ” الديموقراطية” العراقية، بل إشارة لقصر الفترة الزمنية لسن وتشريع قانونين غيّرا شكل المجتمع البريطاني، مقابل تراجع شكل النظام ” الديموقراطي” العراقي بإستمرار منذ أن جاء به المحتل الأمريكي لحل مشاكل الدولة العراقية، والتي تتعمّق وتزداد تعقيدا كلمّا مضينا قدما بهذا الشكل من أشكال الديموقراطية المعتمدة على المحاصصة الطائفية القومية في توزيع مراكز القوى والمناصب، أي الديموقراطية التوافقية. وقبل الدخول في ماهية الديموقراطية التوافقية وتطبيقها الذي سيقودنا الى كوارث على صعيد المجتمع والإقتصاد والتعليم والبيئة وغيرها إن لم يقدنا لليوم، ومقارنتها بأقرب تجربة ديموقراطية توافقية قريبة لنا جغرافيا وما آلت إليه كلبنان، سأتناول بشيء من التبسيط تقريرا تحت عنوان (إستراتيجيات لدعم الديموقراطية في العراق) (1) أعدّه أريك ديفيس أستاذ العلوم السياسية ومدير سابق في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة راتجرز لصالح معهد السلام الأمريكي UNITED STATES INSTITUTE OF PEACE في العام 2005 ، وإيريك ديفيس هو نفسه مؤلف كتاب (ذكريات دولة: السياســة والتاريخ والهوية الجماعية في العراق الحديث). وهذا المعهد وعلى الرغم من كونه “مؤسسة فدرالية غير حزبية” كما يُعرِّف نفسه، الا أن الكونغرس الامريكي هو من انشأه ويموله، والرئيس الامريكي هو من يعيّن مجلس إدارته ويصادق عليه مجلس الشيوخ الأمريكي!

إستراتيجيات دعم الديموقراطيّة بالعراق من وجهة نظر معهد السلام الامريكي

في مقدمة التقرير يشير الكاتب الى أنّ بدأ العملية ” الديموقراطية” بالعراق تعني أن لا عودة للوراء، وعملية التحول الديموقراطي الجدّي والتي بدأت حسب وصفه بحاجة الى أن يعمل العراقيون على ” إضفاء الطابع المؤسسي على نظامهم السياسي الديمقراطي الوليد”، ويستفيض الكاتب بشرح مفصّل عن هذا الأمر من خلال تناوله التاريخ الديموقراطي للعراق منذ عهد السومريين الى يومنا هذا ليصل الى ” أن الديمقراطية ليســت جديدة على العراق، والواقع أن العكس هو الصحيح تماما”.

لقد تناول التقرير المُعَد بإستفاضة وأرقام وأحداث وشخوص وهيئات وأحزاب مساحة واسعة من العملية السياسية بالعراق بعد الإحتلال لحين تاريخ إعداده، كما تناول إقتراحات كاتبه ونظرته لشكل العملية الديموقراطية بالبلاد وآفاقها المستقبلية. ومثلما بدأت الديموقراطية البريطانية بإيلاء إهتمام كبير للتعليم، يقترح الكاتب جملة توصيات من أجل تطوير التعليم والمناهج الدراسية لتكون بوابّة لفهم اكبر للعملية الديموقراطية من خلال ” إدخال مواد للتدريس ذات توجه مدني”. لقد تناول التقرير بعد المقدمة الشروط اللازمة للديموقراطية والتي حددها بأربع نقاط ، والخصها من وحي التقرير بـ  :

1- “بناء مؤسسات قوية تحمي المواطنين من الممارسات التعسفية للسلطة السياسية”.

2- “أنّ المواطنين يجب أن يصلوا ليس الى صحافة مستقلة ونظام للإتصال الجماهيري، بل ايضا الى نظام تعليمي يدعم الفهم المدني والقيم المدنية”.

3- “يجب أن تعمل الحكومة على أن يتمتع جميع المواطنين بالعدالة الإجتماعية. أنّ مجتمعا تنتشر فيه البطالة ولا يرى الشباب فيه أملا في المستقبل لا يستطيع أن يبني ديموقراطية قوية”.

4- “يجب أن تتسم جميع المجتمعات الديموقراطية بالإتفاق بين المواطنين على المثل العليا الأساسية التي تجمع بينهم”.

ويصل كاتب التقرير الى حقيقة معروفة وهي أنّ الديموقراطية تفشل عندما لا يتمتع المجتمع بمستوى معيشي لائق، وشيوع البطالة والأمية، والركود الإقتصادي، وتراجع منظمات المجتمع المدني وغياب العدالة الاجتماعية. لكنّ العدالة الإجتماعية وهي أساس قوي في بناء النظم الديموقراطية، قد نراها في بلدان غير ديموقرطية كالإمارات وقطر على سبيل المثال، فالفائض المالي الكبير في ظل الإقتصاد الريعي وتعداد السكّان والعلاقات القبلية المتداخلة والإدارة الصحيحة لموارد البلد لحدود معيّنة ساهمت في تبني الدولة مبدأ العدالة الإجتماعية دون تحقيق الشروط اللازمة لتحقيقها بشكلها السياسي والإجتماعي والإقتصادي المطلوب، وعلى الرغم من هذا تبقى هذه الحالة إستثناء وليس قاعدة. فقيام العدالة الإجتماعية في مجتمع ما بحاجة الى عمليات تنمية سياسية وإقتصادية وإجتماعية تبدأ ببناء دولة مؤسسات تأخذ على عاتقها الشروع بعمليات تنمية إقتصادية تتكفل بتوفير حاجات الناس، ويعتبر الضمان الإجتماعي من الأسس المهمة لتحقيق مبدأ العدالة الإجتماعية، وهذا يعني تحمل الدولة مسؤوليتها في تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء من خلال تقديم مساعدات مالية للسكان الأكثر إحتياجا مع ضرورة توفير رعاية صحية وتعليم جيد لجميع الفئات الإجتماعية في المجتمع، ويبقى الطريق للعدالة الإجتماعية معدوما في حالة غياب الأمن والسلام والحريات الفردية وعدم إحترام حقوق الإنسان ومنها حقوق الطفل والمرأة بل وحتى حقوق الحيوانات. وإذا أخذنا بلادنا كمثال فسنرى من إننا بعيدون جدا عن تحقيق مبدأ العدالة الإجتماعية، فالفساد وسوء الإدارة يلتهمان الجزء الأكبر من مداخيل البلد، علاوة على إنعدام الأمن والسلام فيه. كما وأنّ العدالة الإجتماعية في بلد بتعداد العراق السكّاني والذي تتزايد أعداده بوتائر سريعة، لا يستطيع الإقتصاد الريعي مواكبته ولو بحدوده الدنيا. لذا وليتحقق الشكل الأمثل للعدالة الإجتماعية في ظل نظام ديموقراطي حقيقي، فإننا بحاجة الى موارد ضخمة لا تعتمد على الإقتصاد الريعي وتقلبّات أسعار الطاقة في الأسواق العالمية، بل الى إدارة كفوءة وبنى تحتية وتنوّع إقتصادي لتجنب المخاطر التي تهدد إقتصاد البلاد. أي وبمعنى آخر فإننا بحاجة الى سياسة إقتصادية علمية وعقلانيّة تعمل على تطور ونمو الإقتصاد وتنوعّه من خلال تعزيز القطاع العام وفسح المجال امام القطاع الخاص الوطني للمساهمة في الإستقرار الإقتصادي المنشود والذي يقود الى تحقيق العدالة الإجتماعية، من خلال إرساء نظام ديموقراطي. وعودة للتقرير فأنّه لم يتنبأ وهو صادر عن معهد ابحاث تابع لدولة كانت تحتل العراق وقتها ولليوم الى أمر يقوّض العملية ” الديموقراطية” التي لازالت في تراجع على الرغم من تجاوزها الثمانية عشر عاما من ولادتها القيصرية برمتّها، وهو تناسل الميليشيات التي كانت تقاتل النظام البعثي الى العشرات، وكأنها تتكاثر في مزرعة لزراعة اشكال مختلفة من الفطر السام والقاتل، كما وأنّه لم يتناول مصطلح الديموقراطية التوافقية مطلقا كنموذج في التجربة ” الديموقراطية” العراقية!!

هل النظام السياسي بالعراق ديموقراطي، وإن كان ديموقراطيا فأي نموذج ديموقراطي هو ..؟

يُعرّف كلا من الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الإنجليزي جون لوك والفيلسوف الفرنسي مونتسكيو الديموقراطية من أنها” الحكم بالرضى (عبر الإنتخابات)، وحكم الأكثرية أو الأغلبية (الفائز بأكبر عدد من الأصوات)، وتقسيم السلطات”. وهناك ملاحق أخرى حسب رأيهما لهذا النظام منها ” حقوق الإنسان، الحقوق المدنية للفرد، حقوق المرأة، القانون الدولي.. الخ”. ويعتقد البعض من أنّ هذا النموذج من الديموقراطية يعتبر ناجحا في البلدان المتجانسة. اما في حالة البلدان غير المتجانسة فأنّ مبدأ الأغلبية والأقلية حسب رأي عالم الإجتماع الإسباني خوان لينز تتحول الى أغلبية قومية أو دينية أو طائفية والذي ينتج عنه وفق رأيه إستبداد الأكثرية، وهذا ما دفع الباحث الإسرائيلي إرون يفتختال الى قول من أنّ لا ديموقراطية في إسرائيل، بل هناك إستبداد الإثنية الكبرى! ولحل هذه المعضلة أي صعوبة وليس إستحالة قيام نظام ديموقراطي وفق الأغلبية في مجتمع غير متجانس، فأنّ البديل كان مفهوم آخر للديموقراطية وهو مفهوم الديموقراطية التوافقية، والتي تتميز بأربع عناصر أساسية حسب رأي إرنت ليبهارد في كتابه (الديموقراطية التوافقية في مجتمع متعدد) وهي :

1- ” حكومة إئتلاف أو تحالف واسع يشمل حزب الأغلبية أو سواه.

2- مبدأ التمثيل النسبي في الوزارة، الإدارة ، المؤسسات، والإنتخابات أساسا.

3- حق الفيتو المتبادل للأكثريات والأقليات لمنع إحتكار القرار.

4- الإدارة الذاتية للشؤون الخاصة لكل جماعة”.

وقد شاع كما جاء في مقدمة الكتاب أعلاه مصطلح التوافقية في العراق شيوعا كبيرا، وأُهملت إسرائيل وهي مجتمع غير متجانس أيضا، وهي متداولة أي مصطلح التوافقية في لبنان على نطاق نخبوي!

سأحاول هنا وبشيء من التبسيط والتكثيف تناول تجربة الديموقراطية التوافقية في العراق ونتائجها، وإن كانت صالحة لبناء دولة في ظل وعي شعبي متدن، نسبة أمّية عالية، بطالة، فقر، غياب كامل للعدالة الإجتماعية، فساد على كل المستويات، تأثير المؤسستين الدينية والعشائرية على جمهور واسع من المواطنين، تعدد مراكز القوى، شيوع ثقافة السلاح، إستقطاب طائفي/ ديني – قومي، إتفاق النخب السياسية على كل شيء الا ما يتعلق منها بخدمة المواطن والوطن. علما من أنّ الديموقراطية التوافقية لم ترد في دستور البلاد بالإسم، ولم يتم تبنّيها علنا من قبل الأحزاب الطائفية – القومية والتي تعمل بالحقيقة من خلالها في قيادة البلد.

أولى ما يُمكن تسميتها بالديموقراطية التوافقية بالبلدان العربية ظهرت في لبنان بعد الإحتلال الفرنسي له، بإعتمادها أي الديموقراطية التوافقية على مبدأ المحاصصة الطائفية كنموذج للحكم فيه. ولو درسنا التجربة اللبنانية وما آل إليه لبنان من تطبيقاتها الكارثية، لأكتشفنا وبسهولة ما يحدث في العراق من فوضى خلّاقة بسبب نظام المحاصصة الطائفية/ القومية، والذي هو في الواقع ترجمة حقيقية للديموقراطية التوافقية التي يراد لها أن تكون الشكل الأوحد للديموقراطية. وقد توصّل المفكّر اللبناني مهدي عامل والذي عاش الحرب الأهلية هناك الى أنّ الديموقراطية إذا أرادت أن تكون ممكنة في لبنان، فيجب أن تكون ديموقراطية ثورية أي حكم وطني ديموقراطي، وفي هذا يقول ” كانت الديمقراطية ممكنة ما دامت ديمقراطية طائفية، والديمقراطية الطائفية في اساسها هي هذا النظام الذي يحول دون التكون السياسي المستقل للطبقة الثورية النقيضة، وبالتالي ما ان ظهرت ضرورة تحول الديمقراطية الطائفية الى ديمقراطية سياسية، حتى بمعناها البرجوازي، ما أن ظهرت هذه الضرورة حتى إختارت البرجوازية الخيار الفاشي ودخلت في مرحلة الحرب الأهلية. إذن لم تعد الديموقراطية ممكنة في لبنان إلّا كديموقراطية ثورية أي كحكم وطني ديموقراطي (2) ومن خلال تجربتنا التي لا تقل سوءا

عن التجربة اللبنانية، فعلى القوى اليسارية والديموقراطية تثقيف جماهير شعبنا من أنّ الديموقراطية غير ممكنة في العراق الذي عاش حرب طائفية ويعاني من تغوّل الطوائف وأذرعها العسكرية وفساد النخب السياسية وهيمنة المؤسستين الدينية والعشائرية، الا بشكل ديموقراطية ثورية، أي حكم وطني ديموقراطي. ومفهوم الثورية هنا هو ليس حمل السلاح ضد السلطات الحاكمة أو بشكلها الكلاسيكي المعروف، بل التعبير عن رفض الجماهير للفساد والبطالة والمحاصصة من خلال تظاهرات وإعتصامات وإضرابات تقودها قوى لها المصلحة الحقيقية في تغيير الأوضاع نحو الأفضل. وهذه من مهام القوى اليسارية والديموقراطية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والحركة الطلابية التي لعبت دورا بارزا في إنتفاضة تشرين، هذه الإنتفاضة التي غيرت الكثير من المفاهيم السياسية والإجتماعية في البلاد، وتعتبر نقطة مضيئة من نضالات شعبنا للخروج من محنته بعد أن زرعت الوعي في بين صفوف جماهير كسرت حاجز الخوف ورسمت طريقا لا يُمكن الرجوع عنه وهي تبحث عن خلاصها ووطنها من سلطة الفساد والميليشيات.

أنّ خطورة الديموقراطية التوافقية في بلد كالعراق، تأتي أساسا من تقسيم المجتمع بشكل عمودي، أي بشكل ديني/ طائفي – قومي، وهذا يؤدّي في ظل غياب العدالة الإجتماعية والحريّات وإنتشار الفساد، وصراع النخب السياسية التي تدّعي تمثيلها للدين/ الطائفة- القومية وهو صراع من أجل مصالحها وليس من أجل مصالح من تدّعي تمثيلهم، الى تعميق التمايز بما يخدم مصالح النخب السياسية ويساهم في إضعاف الدولة والمجتمع. في حين أنّ الديموقراطية يكون فيه تقسيم المجتمع أفقيا، وهذا ما عليه أن يتبناه اليسار والقوى الديموقراطية الأخرى . فالصراع يجب أن يكون صراعا إجتماعيا كون اصل الصراع الإجتماعي ذو جذور إقتصادية، وصراعا طبقيا، وهذا الشكل من الصراع هو المحرّك للتاريخ كما يقول ماركس. وإن كانت هناك شهادة جودة للديموقراطية، فأنّ “الديموقراطيات” العربية وفي مقدمتها العراقية هي من اسوأ التجارب والأشكال الديموقراطية التي عرفتها البشرية، وهذا يعود أساسا الى قلّة وعي المواطن العربي وجهله وأمّيته وبحثه المستمر للهويات الفرعية والإحتماء بها نتيجة ضعف الدولة وفسادها، أو إنحيازها لقومية أو دين أو طائفة على حساب الشعب ككتلة بشرية تتمتع بالحرية والعيش الكريم.

إنّ قبولنا بالديموقراطية التوافقية، يعني قبولنا بنظام المحاصصة الطائفية وشرورها، ورفضنا لها يعني العمل على تحشيد كل الفئات الإجتماعية المتضررة من سلطة المحاصصة لتغيير ميزان القوى سياسيا بما يشكل ضغطا شعبيا واسعا لإنهاء هذه الديموقراطية المسخ، والتعبير عن رفضنا هذا من خلال ربط الديموقراطية بتطور مجتمعنا وفصلها كليا عمّا تسمى بالديموقراطية التوافقية. أن الديموقراطية لتكن حقيقية وفعالة فهي أمام مهمة إرساء إستقرار سياسي وإجتماعي، من خلال مواجهة قوى الفساد وتحويل الصراع الإجتماعي من صراع عمودي الى صراع افقي، وهذه من مهمات القوى اليسارية والديموقراطية الأصيلة لمواجهة خطر تقسيم البلاد.

هل الديموقراطية التوافقية هي البوابّة لتقسيم العراق ..؟

في باب الإنفصال والتقسيم ومن خلال ردّه على آراء وأفكار إريك أ. نوردلينغر يقول إرنت ليبهارد ” إنّه ينبغي أن لا يُعد الإنفصال نتيجة غير مرغوب فيها للتوترات داخل مجتمع تعددي في كافة الظروف. ثمة ثلاثة حلول لمعالجة المشاكل السياسية في مجتمع تعددي مع الحفاظ على طبيعته الديموقراطية. أولّها إزالة الطابع التعددي للمجتمع أو تقليصه بصورة جوهرية عبر الإستيعاب – وهي طريقة ذات إحتمالات ضئيلة في النجاح، على المدى القصير خصوصا. ثانيهما، الحل التوافقي الذي يقبل بالإنقسامات التعددية بإعتبارها لبنات البناء الأساسية لنظام ديموقراطي مستقر. فإذا كان الحل الثاني بعيد المنال، أو إذا ما جُرّب وأخفق، فأنّ الحل المنطقي الوحيد الباقي هو تقليص التعدد عبر تقسيم الدولة الى دولتين منفصلتين متجانستين أو أكثر”. وقد أثبتت تجربة قبرص ذات النظام الديموقراطي التوافقي صحّة إراء ليبهارد وهي تنقسم الى دولتين لقوميتين مختلفتين، الا أنّ التجانس بينهما غبر موجود مثلما توقّع ليبهارد.

لو أهملنا الحلّ الأوّل لضآلته كما يقول ليبهارد، نرى إننا في تجربتنا العراقية قد فشلنا لليوم في الحلّ الثاني أي الحل التوافقي/ المحاصصة الطائفية القومية في تقسيم المجتمع العراقي بعد تجربة عمرها ثمانية عشر عاما، ولم نستطع لليوم ان نتقدم ولو خطوة واحدة في بناء نظام ديموقراطي، ناهيك عن بناء نظام ديموقراطي مستقر. ماذا تبقى من الحلول الثلاثة إذا..؟ لم يبقى الّا الحل الأخير حسب رأيي ليبهارد أي تقسيم الدولة الى دولتين مثلما يقول، وفي الحقيقة أن التقسيم في تجربتنا الكارثية مع الديموقراطية التوافقية، سيقسّم البلاد الى ثلاث أو أكثر من الدول غير المنسجمة إطلاقا وليس دولتين.

إنّ الديموقراطية التوافقية غير قادرة على بناء نظام حكم وطني مستقر، وغير قادرة على تجاوز الحالة الطائفية القومية بالبلاد، وستبقى عاجزة عن حلّ مشاكل شعبنا وبلادنا. وإستمرارها يعني إننا نسير بالبلاد الى جحيم من المشاكل التي لا تنتهي، والتي قد تؤدي الى تقسيم البلاد. ويبقى الحل هو بناء نظام ديموقراطي حقيقي، بمعنى آخر حكم وطني ديموقراطي كما يقول مهدي عامل. وهذا المهمة الصعبة وغير المستحيلة تبدأ بإرساء ثقافة تسامح وطنية من أجل تعزيز الوحدة الوطنية من خلال كتابة دستور جديد، وتجريم إستخدام مصطلحات طائفية وعرقية كوسيلة للتمييز بين العراقيين لمصالح حزبية وفئوية ضيّقة، خصوصا في الدستور ووزارت ومؤسسات الدولة. فديباجة الدستور العراقي الحالي، ترسّخ مبدأ المحاصصة من خلال ترسيخها لمبدأ الولاءات الدينية والطائفية والقومية، وهذا بحد ذاته يُضعف مفهوم المواطنة إن لم يُنسفها.

لكنّ السؤال الكبير هو، من سيأخذ على عاتقه تحقيق هذه الإنعطافة في الحياة السياسية لإنقاذ شعبنا ووطننا؟ إنّ النخب السياسية المهيمنة على الوضع السياسي، لا مصلحة لها في التغيير مطلقا، لأن التغيير يعني إنتحار سياسي لها. لكن القوى اليسارية والديموقراطية وقوى شعبنا الحيّة هي صاحبة المصلحة الحقيقية في هذا التغيير، وعليها أن تتفق على أصغر القواسم المشتركة نابذة خلافاتها جانبا، فالمعركة اليوم هي معركة وطن يراد له أن يُقسّم أو أن يبقى مريضا كما هو عليه الآن، وهذه القوى مدعوة قبل غيرها لتحمل أعباء هذه المرحلة الدقيقة والمفصلية من حياة وطننا. أنّ الثقة بالنخب السياسية والدينية والعشائرية في تغيير أوضاع البلاد ولو بنسبة ثانية واحدة لسنة ضوئية ليست سوى سذاجة، كون هذه القوى المتحاصصة وهي تنفّذ أجندات دولية وإقليمية تعتبر أساس المشكلة إن لم تكن المشكلة نفسها.

الكارثة في الفوضى السياسية العراقية هي ليست النموذج “الديموقراطي” بغضّ النظر عن مسمياته، بل الكارثة تكمن في إننا لازلنا في نفس المربع الديموقراطي الروماني قبل الميلاد، عندما كان المرشّح للإنتخابات ” يحرص على كسب ودّ أكبر عدد من القبائل”(3)، ولكي نعود فعلا لتلك الحقبة من الصور السلبية في العملية الإنتخابية “نرى أنّ الرشوة تأتي في مقدمتها، أي توزيع النقود على القبائل”(4) وهذا يعني إننا بحاجة وفق النموذج ” الديموقراطي ” العراقي الحالي، لأكثر من الفي عام لنصل الى ما وصلت اليه روما وقتها حيث الغلبة للقبائل ولمن يستطيع تقديم رشى أكبر ليفوز بالإنتخابات.. !!

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *