قانون الوطنية العراقي

قانون الوطنية العراقي
آخر تحديث:

بقلم: علي الصراف

ما مِنْ طائفي وعميل لإيران وجندي مِنْ جنود حرسها الثوري، وما من فاسد ومرتش ومرتكب انتهاكات وقاتل أطفال ومغتصب نساء ومُخرّب بيوت ومُهجِّرِ مساكين، وما من ناكر لحق الآخر بالكلام أو الرأي ومشارك في أعمال التعذيب والاعتقالات العشوائية إلا ويزعم أنه “وطني”.يُجبرك هذا الخلل على التساؤل: من هو “الوطني” حقا؟ وهل “الوطنية” ادّعاء ندّعيه، أم أنها معايير سياسية وأخلاقية وإنسانية، نتّبعها ونعرف معالمها؟ وهل من سبيل لتحديد هذه المعايير، بجعلها مدوّنة سلوك واضحة المعالم؟ بل هل من سبيل لإصدار قانون يحدد ماهية هذا الادّعاء، ويرسم خطوطه العريضة، لكي لا يختلط الحابل بالنابل؟ ومن بعد ذلك، فهل من سبيل لجعل الخروج عن مدونة المعايير “جريمة مخلة بالشرف”، كما هو الحال، مع كل الجرائم التي يُعاقب عليها القانون؟العراق، كمعظم دول المنطقة الأخرى، “دولة ناشئة”. ولم تترافق نشأتها مع معتركات فكرية أو فلسفية سابقة. ولكنها نشأت في خضم معتركات سياسية مع خصم خارجي في الغالب. فتلبّست المفاهيم السياسية لبوس تلك المعارك. فأصبح “وطنيا”، على سبيل المثال، كل مَنْ يحارب الاستعمار، حتى ولو ارتكب بحق مواطنيه أشنع الجرائم.

والدولة الناشئة، كمؤسسة، لم تعثر على معايير من صنع أخلاقياتها الخاصة أو معاييرها المدنية أو الفكرية. وبكل تأكيد، لم يكن لدى أيّ دولة عربية “فلاسفة دولة”، ينظّرون لحاكمها طرائق وسبلا للحكم. وظل الأمر معلقا على ما تيسّر من مسالك الحاكم وأخلاقياته الفردية.دولة ما بعد الاستقلال لم تعرف منظرين يحددون لها الأخلاقيات والأسس والمعايير فأصبحت نهبا للنسخ من دون فهم، وللتقليد من دون إيمان، وزيّا لا يتناسب مع الجسم. وأصبحت الدساتير واحدة من أكبر مدونات الأكاذيب، وتسفيط الكلام الفارغ الذي لا مدلولات عملية له.ولقد كان من الطبيعي أن يظل بلد مثل العراق، وهو من أوائل الدول العربية “المستقلة”، يُحكم بدستور مؤقت لوقت طويل. ويجري تعديله على مقاس حذاء كل حاكم. وعندما جاء الغزاة الأميركيون في العام 2003، وضعوا له دستورا هو واحد من أفسد الدساتير وأكثرها زيفا ودجلا، إنما لكي يتلاءم مع نظام أرادوا له، حصرا، أن يكون نظام فساد ونهب وتقاسم منافع.حتى أفسد الفاسدين، وأبو نظامهم الطائفي، يستطيع القول إنه “وطني”. فهل تستطيع أن تتخيل مصيبة أكبر من هذه؟

طائفيتهم القبيحة وعمالتهم لإيران وارتباطاتهم المشبوهة بحرسها الثوري، وخدماتهم التي لا تتناسب مع أيّ مصلحة من مصالح العراق، دع عنك ما يُتهمون به من أعمال فساد طائل، لم تمنع أيا من جماعات الولاء المعلن لإيران من أن يزعموا أنهم “وطنيون”. ماذا تريد أكثر من هذه فضيحة للمفهوم؟ بل ماذا تريد أكثر من هذه فضيحة للمجتمع نفسه، الذي لم يقف ليقول لهذا النمط من البشر، دقيقة من فضلكم، المسافة بينكم وبين الوطنية أبعد من المسافة بين الأرض والسماء السابعة.المجتمع نفسه الذي سمح لكل مدّعٍ أن يدّعي ما يدّعيه، من دون معايير ولا أسس، هو المسؤول في النهاية عن هذا الخلل. ونخبته الفكرية أو الثقافية، لم تقل لحكّامها، دقيقة من فضلكم…حتى جاءت الجماعات التي توالي إيران وتخدم مصالحها لتزعم أنها جماعات وطنية. وإذا شاءت أن تقوم بتدبيج البيانات، فيا ويلي وسواد ليلي، كم ستظهر وكأن الوطنية تتقطر من بين أصابعها.والعيب ليس فيهم في الحقيقة. يقال “المال السائب يعلم أولاد الحرام السرقة”. والوطنية السائبة تعلم أولاد الزنى السياسي سرقة المفاهيم والسطو على المعاني.

لقد حان الوقت لكي يصدر قانون يحدد ماهية الوطنية، ويقدم تعريفا واضحا لـ”الوطني”. وهو أمر يفترض ألا يقتصر على العراق وحده، بل على كل “الدول الناشئة” التي لم تتوفق في أن تحدد لوطنيتها، قواعد واضحة، سواء من ناحية المفهوم، أو من ناحية المعايير السلوكية التي تقيّد الممارسات العامة، وليس الممارسات السياسية وحدها.لا يوجد قانون في دول العالم المتقدمة، يحدد هذه المعايير. هذا صحيح. ولكن هذه الدول قامت على أسس فكرية سابقة، وخاضت في سجالات فلسفية طويلة وتبنت دساتيرها على أساس تلك السجالات وانتهت إلى قواعد غير مكتوبة، ولكن صارمة، حتى لم يعد بوسع متهم بالفساد، إلا أن يستقيل أولا، قبل أن يسعى لتبرئة نفسه من التهمة، أو يختفي من الوجود. كما لا يستطيع مسؤول، يرتكب خطيئة أخلاقية طفيفة، إلا أن يدفع ثمنها من منصبه أولا.

الأساس في الأمر، هو أن هناك مدونة معايير معروفة، ومقبولة على وجه العموم، ولا تحتاج أن تكون مُسطّرة في قانون، لكي تحدد للمرء كيف يتصرف حيال مواطنيه، أو كيف يتصرف وهو في منصبه.نحن نفتقر إلى مدونة المعايير هذه. لم نعرفها. ولم نفكر بها أصلا. ولا كانت أساسا لنقاش حقوقي أو أخلاقي أو سياسي مسبق. ولهذا السبب، فقد أصبح متاحا لكل مجرم وفاسد وعميل وجلاد أن يزعم أنه “وطني”.لقد حان الوقت، لكي نخرج من حالة الفوضى الأخلاقية التي نمارسها في السياسة. وذلك بأن نحدد تلك المعايير، ونؤطرها بقانون تجري مناقشته بين العموم، وفي وسائل الإعلام المختلفة، قبل البرلمان، لكي نرسم معالم الطبيعة المجردة للوطنية.

يمكن أن يقال، على سبيل المثال، لا الحصر:

  • ليس وطنيا كل مَنْ تلقى دعما أو تسهيلات أو منافع من الخارج. أو قدّم دعما أو تسهيلات أو منافع للخارج.

  • ليس وطنيا كل مَنْ تعمد انتهاك القانون في ممارسة مسؤولياته السياسية أو الوظيفية.

  • ليس وطنيا كل مَنْ حاول أن يجعل الدولة، وهي ملكية عامة للمجتمع، ملكا لحزبه، أو مجموعته الطائفية أو العرقية.

  • ليس وطنيا، مَنْ تعاون مع أطراف خارجية، لإضعاف أيّ طرف داخلي أو تشويهه أو عزله، أو حرمانه من حقوق العمل السياسي المتساوي.

  • ليس وطنيا، مَنْ سخّر موارد الدولة، أو منصبه فيها، لمصلحة حزبه أو عشيرته أو عائلته أو نفسه.

  • ليس وطنيا، مَنْ تعمّد، أو تساهل، أو غض الطرف، عن انتهاك حقوق مواطنيه.

  • ليس وطنيا كل مَنْ تصرف بأملاك الدولة ومواردها من دون رقابة ومصادقة مسبقتين من جهات مسؤولة، ومستقلة، عن نزاهة العقود والمواثيق والالتزامات.

والمعايير كثيرة، على أيّ حال. إلا أنه يمكن تسطيرها، بمشاركة المجتمع ونخبته، لتصبح قانونا، يمتثل له السلوك السياسي، بل ويمتثل له السلوك الاجتماعي نفسه.

لقد عرف العراق “وطنيين” كثيرين، من هذا النمط السائد، الذي يستخدم الوطنية كغطاء أو كأداة من أدوات الدجل أو التقيّة أو النفاق. ولكن حان الوقت، لكي نعرف، في قانون، مَنْ هو “الوطني”، فلا يبقى الأمرُ ادّعاءً غامضاً يدّعيه كل سافل.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *