لن يتحقق الإصلاح من قبل القوى السياسية الفاسدة

لن يتحقق الإصلاح من قبل القوى السياسية الفاسدة
آخر تحديث:

بغداد/ شبكة أخبار العراق-  القوى السياسية التي شاركت في العملية السياسية في العراق عقب الغزو الأميركي عام 2003 لم تكن بمستوى المرحلة، ولم تكن قادرة على أن تلبي طموحات شعبٍ اعتقد جزء منه، للوهلة الأولى، أن الغزو وإسقاط النظام يمكن أن يكونا مدخلا مناسبا لبناء عراق جديد، ديمقراطي تعدّدي قادر على أن يستوعب كل أبنائه، غير أن ذلك كله تبدّد بعد فترة قصيرة من وصول دبابات الغزو الأميركي ومعها عراقيو الخارج ممن جمعتهم أميركا لتشكل منهم معارضة.اليوم ونحن على أعتاب العام العشرين على الغزو الأميركي للعراق وإسقاط نظامه السابق، يبدو أن تلك العملية السياسية التي شكلت عراق ما بعد الغزو قد شارفت على الوصول إلى النهايات، نهاياتها، نهاية عملية سياسية كانت مأزومةً منذ لحظتها الأولى، عملية سياسية بُنيت على الإقصاء والتهميش وتوزيع الأدوار وتشكيل عراق المكونات، بدلا من عراق المواطنة.لم يعد من الممكن اليوم الحديث عن عملية سياسية في العراق، خصوصا عقب ما جرى يوم السبت الماضي من عملية اقتحام أنصار التيار الصدري البرلمان العراقي والمنطقة الخضراء احتجاجا على ما وصفوها بمحاولة الإطار التنسيقي (الشيعي) فرض مرشحه لرئاسة الحكومة، والذي يرى فيه مقتدى الصدر وتياره أنه رجل الظل لنوري المالكي، وهو محمد شياع السوداني.قد تصل الحوارات، إن جرت بين القوى الشيعية، إلى حلول، لكنها بالمطلق حلول وقتية تسهم فقط في مدّ عمر العملية السياسية من دون إصلاحها

صحيح أن الموضوع أعقد بكثير من موضوع ترشيح السوداني، ولكن الصحيح أيضا أن أي حوار بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، من أجل لملمة الموضوع والاتفاق على صيغة للحل، لن يكون إلا محاولة لبثّ الروح في جسد العملية السياسية الميت، ولن يعدو أكثر من محاولة لتأجيل الخلافات، والتي يبدو أنها وصلت إلى نقطة مسدودة ولم يعد بالإمكان إخفاء أو مداراة ما كان يتداول في الحلقات الضيقة عن خلافاتٍ قوية وكبيرة بين القوى السياسية الشيعية، وتحديدا بين التيار الصدري والقوى الشيعية الأخرى، وفي مقدمتها ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي.

قد تصل الحوارات، إن جرت بين القوى الشيعية، إلى حلول، لكنها بالمطلق حلول وقتية تسهم فقط في مدّ عمر العملية السياسية من دون إصلاحها، لأن هذه القوى المشكلة للمشهد السياسي العراقي منذ 2003، غير قادرة على الإصلاح، لأنها أصلا لا تملك أدواته، فهي لا تملك مشاريع حزبية أو سياسية بقدر ما هي مشاريع نفعية وحزبية وطائفية ضيّقة، بالتالي، لا يمكن أن يأتيك الإصلاح من فاسد، ولا يمكن أن تأتيك الديمقراطية من كافرٍ بها وغير مؤمن بمسارها، كحال القوى السياسية في العراق.

التمديد لحكومة الكاظمي، الدعوة إلى انتخابات مبكرة، التوصل إلى تفاهم من أجل تشكيل حكومة مؤقتة، وغير ذلك من حلول، ستبقى حلولا غير واقعية لا تنفع لمداواة واقع عراق اليوم، وهي في أحسن الأحوال وصفة لمدّ عمر العملية السياسية ليس إلا.جرّب العراقيون الانتفاضة ضد هذا النظام والثورة ضده بمنتهى السلمية، غير أنهم جوبهوا بالقتل والاعتقال والاختطاف والتهديد والتشريد، وما قام به أنصار مقتدى الصدر من اقتحام متتالٍ للمنطقة الخضراء ما كان لهم أن يقوموا به، لولا أنهم أتباع زعيم ديني يمتلك مليشيات مسلحة تخشاها حتى السلطة، في وقت كان الشباب العراقيون من متظاهري تشرين 2019 يُقمعون ويقتلون بمجرّد تظاهرهم أمام جسر الجمهورية المؤدي إلى المنطقة الخضراء.ضغطة خاطئة على زناد بندقية صدئة قد تقود العراق إلى مجهول المواجهات المسلحة، والتي لن يكون العراق وحده ضحية لها

أمام هذا الواقع، تطرح تساؤلات في ما إذا كانت العملية السياسية ستمضي على علاتها، أم هناك حلول أخرى على القوى العراقية أن تفكّر بها، ولعلنا هنا نشير إلى قضية تدويل الملف العراقي، بمعنى أن يكون هناك تدخل دولي من أجل منع وصول العملية السياسية إلى لحظة المواجهة المسلحة، وما قد تجرّه على العراق والمنطقة من ويلات.الأمم المتحدة ومن خلفها المجتمع الدولي، يجب أن تكون لهما كلمة في واقع العراق، ولعل تغريدة المقرّب من مقتدى الصدر يوم السبت الماضي التي دعا فيها الأمم المتحدة إلى لعب دور في العراق، يمكن أن تكون بداية لهذا الدور من خلال جمع القوى السياسية العراقية على عواهنها، والبدء بمسار سياسي جديد يقوم على إعادة كتابة الدستور ليكون دستورا عراقيا لا دستورا للمكونات العراقية، وأن يُصار إلى تشكيل حكومة مؤقتة، تأخذ على عاتقها التمهيد لانتخابات جديدة يرافق ذلك حلّ الأحزاب السياسية، أو على الأقل تفعيل قانون الأحزاب وإجبار كل القوى السياسية التي تمتلك مليشيات على إخضاع مليشياتها للدولة وحكومتها.

قد يبدو ذلك ضربا من الخيال، ولكن ما دعت إليه بعض الصفحات المقرّبة من مقتدى الصدر، وما تحدّث به بعض القادة السياسيين العراقيين خلال اليومين الماضيين، يؤكد أن الجميع بات متيقنا أن العملية السياسية وصلت إلى نهاياتها، وأن ترك الأمور بيد الشارع والجمهور المحتقن والساسة المأزومين قد يقود العراق للدخول في نفق أكثر ظُلمة مما يعيشه العراق الآن، خصوصا وأن أغلب القوى السياسية المتناحرة اليوم تمتلك مليشيات مسلحة، وربما ضغطة خاطئة على زناد بندقية صدئة قد تقود العراق إلى مجهول المواجهات المسلحة، والتي لن يكون العراق وحده ضحية لها، وإنما قد تمتد إلى الإقليم، خصوصا وأن هناك أطرافا داخل العملية السياسية في العراق تعتقد أن ما يجري هو مؤامرة من أطراف عربية وإقليمية.

حين يحرّك الزعيم العراقي، مقتدى الصدر، جماهيَره يخاف الآخرون. سيولٌ من البشر تطيعه عُميا في اقتحام ما يريد. يقود كتلةً شعبية أخذتْ بالتشكل قبل 2003، عندما كان العراقُ محاصَرا والجوعُ يضرب شعبه وهوامشُ البلد تأخذ طريقها لتصبح متنَه. من جانب آخر، قدرتُه على التحشيد تصاحبُها قوةٌ عسكرية كبيرة ليست الدولةَ، وإنما متغلغلة في السلطة. هي سرايا السلام إحدى القوى العسكرية الرئيسة الأربع في البلاد، مع الجيش والحشد والبيشمركة.حازت كتلتُه المركز الأول في انتخابات 2018 و2021. في الأخيرة، كان فوزا صريحا مضى فيه بإصرار مستفيدا من خسارة مذلّة لخصومه الموالين إيران، وتحديدا قائمة الفتح. لكن خصومَه التفّوا من جديد، مستخدمين نفوذَهم السياسي والقضائي وعلاقاتِهم بطهران، فنافسوه على تعريف “الكتلة الأكبر” بعد تجميع كل متفرّقاتهم وفلولهم داخل البرلمان. يقودهم رئيسُ الوزراء الأسبق، نوري المالكي، المصرُ على قيادة المشهد، رغم ما تسبب به من كوارث سياسية واقتصادية وأمنية ومجتمعية.  

في المقابل، أصرّ الصدر على أن يكون القائد مستثمرا، كونه زعيمَ الكتلة الأكبر، ومستبعدا أي تحالف مع المالكي، وساعيا إلى إيجاد تحالفات أخرى. ثم انسحب فجأة، طالبا من أتباعه النوّاب الاستقالة، وفاسحا المجال أمام التحالف الشيعي المناوئ، الإطارِ التنسيقي. لكن لماذا حصل ذلك، رغم أن كتلتي محمد الحلبوسي السنية ومسعود البرزاني الكردية شكلتا معه جبهةً أو ما بدا أنه جبهة؟

للدور الإيراني أثرٌ في هذا، غير أن فكرة تشكيل حكومة أكثرية سياسية ليست آمنةً؛ أي أكثرية لن تكونَ مريحة، وتصلَ إلى مستوى يجعلها بمنأى عن عواصف اللعب السياسي، ويؤدّي بها إلى انهيار سريع، فالكتلة الصدرية مكونة من 73 نائبا أيْ ما نسبته أكثر بقليل من 20% من البرلمان. هي، مع كونها أغلبية ولها هامش المناورة الأكبر، غيرُ قادرة على التحرّك بأريحية كافية. ومن ثم، كما أن القوى الشيعية مشتتة، السنة والكرد في البرلمان ليسوا موحدين صريحا، ويمكن أن ينقسموا فيسهموا في سقوط أيّ سلطةٍ تتشكّل على حافة الأكثرية المتزلزلة. ومع ضغط قوى الإطار ومساعي إيران لإفشال أي التفافٍ على حلفائها، بدت مهمة التيار الصدري صعبةً للغاية. لكن تلك الصعوبات ليست العراقيلَ الوحيدة التي واجهها سليل آل الصدر في تحقيق حلم موروث بالسيادة على الكل.

في البدء، يسعى السليل إلى الزعامة على شيعة العراق. التوقيت لمثل هذه الخطوة بدا مناسبا سياسيا. إيران بعد مظاهرات 2019 ومقتل قاسم سليماني فقدت كثيرا من نفوذها، والصدر يقدّم نفسه مستقلا عن نفوذ علي خامنئي. ومن جانب آخر، تدور تحالفات الشرق الأوسط في أفق بعد نهاية الرئيس الأميركي السابق ترامب وحرب الرئيس الروسي بوتين. مقتدى وسط هذا لديه نوع من العلاقات يختلف كثيرا عن زملائه العراقيين، فخلال السنوات الأخيرة لديه تقاربٌ لا بأس به مع السعودية وقطر والإمارات. وجاءت نتائج الانتخابات لتكلل الفرصة بمزيد من الآمال الصدرية. ثم إن اللحظة سانحة للزعامة الشيعية دينيا أيضا، فالمرجع السيستاني تجاوز تسعين عاما، ومقتدى لن يبتعد كثيرا عن معركة الخلافة، فهو بين النجف العراقية وقم الإيرانية كثف من نشاطه الدراسي، كي يقدم نفسه فقيها يمكن أن يلعب دورا أكبر.

وراء زعامة الجماعة، هناك ما هو أكبر، يريد زعامةَ العراق حلما طلبه والده المرجع محمد محمد صادق الصدر (1999) وعم أبيه المرجع محمد باقر الصدر (1980). هو لا يختلف في ذلك عن أكثر التجارب المعروفة التي تبدأ بفرض النفوذ على الدائرة القريبة تمهيدا للدائرة البعيدة. قام بها قبله حزب الله في لبنان، عندما أنهى خصومه العلمانيين من خلفيات شيعية، ثم طوّع المنافسين الآخرين داخل الطائفة مثل حركة أمل، قبل الانطلاق ليفرض إرادته على لبنان كله. ولا أظن أن الجماعات السياسية الكردية والسنية غافلة عن حلم صاحب الكتلة الأكبر. هي تتعاطى معه بحذر شديد، حتى خلال فترة التحالف الثلاثي مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، فالشريكان في الوقت الذي كانا قريبين منه، لم يغفلا مسارَ البحث لتسويات من نوع آخر مع الإطار التنسيقي.

لذا، أظن أنّ ما بدا كونه فرصة الزعامة عبر السياقات البرلمانية وجده الصدر محفوفا بمغامرة فقدان كل شيء. انتقل إلى ما اعتاد على فعله، الابتعاد تمهيدا لاقتراب آخر. استقال نوّابُه. هي مغامرة أخرى، لأنه لو لم ينجح في منع الإطار من تشكيل الحكومة، سيصبح أمام خيار تصعيد قد يجيّش أمامَه قوةً أغلبية صامتة لها معه ذاكرة مرّة. بذا عوّل كثيرا على شلّ الإيقاع، وهو ماهر في هذا جدا. كونه الوحيدَ الذي لا يحتاج إلى دعم إيران في لعبة العرقلة، ولا يحتاج دول الخليج. كان ماهرا منذ عام 2003 في أخذ الأمور إلى مساراته عبر تجميد كلّ شيء. وكان ماهرا في الحيلولة دون وصول الخصوم، لذا كان له فضل على إبراهيم الجعفري 2005 ونوري المالكي 2006 وحيدر العبادي 2014 في أنهم أصبحوا رؤساء وزراء ليس حبا بهم، بل كرها بوصول مرشحِ آل الحكيم وقتئد لرئاسة الحكومة. وكان له الفضل على إيران، بإعطائها فرصة القيام ببعض ما أرادتْ، حين التقت مصالحُه بمصالحها بين عامي 2004 – 2009. وقام بدور الحامي لبعض العلمانيين ممن خشوا المليشيات الإيرانية في 2015، قبل أن يغادرَهم ويغادروه، بعد أن خسروا بسببه وربح بهم. كما استطاع أن يقدّم نفسه المنقذَ مع أنه كان شريكا في سفك الدم.

رغم ذلك، يواجه الرجل احتمالا صعبا، يشبه، إلى حد كبير، تجربةَ استقالة وزرائه من الحكومة في أبريل/ نيسان 2007 ووقتها فقد كثيرا من زخمه. الكتلة الجماهيرية وحدها لا تكفي بدون ساند سياسي داخل محفل “قادة الكتل”. لذلك هناك احتمال آخر أن زعيم التيار وقعَ في فخ الاعتقاد بأن الآخرين سيجْرُون خلفَه لاسترضائه خوفا من غضبه. إذ اعتاد على أن يفعلَ ما يتراجع عنه، أو يقولَ ما يخطّط لعدم تنفيذه، فطالما انسحب من الحياة السياسية، ثم عاد، واستقال وزراؤه من الحكومة ثم عمل على إرجاعهم بطريقة وأخرى، وأوعز بعدم المشاركة في الانتخابات ثم شارك. هي أفعال تنسجم مع طبيعته طرفا فاعلا في الحكم وفاعلا في المعارضة في آن واحد، فليس مستبعدا أن التصعيدَ الأخير، باقتحام مبنى البرلمان، تعبير عن غضب من عدم المبالاة الإيرانية، وأيضا الداخلية، على مستوى القوى السنية والكردية، فضلا عن المنافسين الشيعة. الكل خلال الأسابيع الأخيرة لعب وكأن زعيم أكبر الكتل الشعبية والسياسية غير موجود. وحين عاد إلى المشهد عبْر الاحتجاجات في مداخل المنطقة الخضراء، عادت كتلة الحلبوسي، وإلى جانبها كتلة البرزاني، إلى مغازلته. لكن الغزل لن يفضي إلا إلى ما رفضه الصدر، وهو الحوار مع الخصوم، إلا إذا فكّر بتغيير ثوري، وهذا يأخذ الأمور إلى حربٍ لا يبدو أن الصدر أو أي من منافسيه على استعداد لها.وسواء كان الخيارُ تغييرا ثوريا “صدريا” أو عودةً إلى مشهد التوافق سيئ الصيت، فإن تكرار الأسماء ذاتِها على رأس العملية السياسية، فضلا عن الحنين لحكام سبقوا هذه المرحلة، مؤشرٌ على أن العراق يعاني من إشكالية أخلاقية وسياسية ومجتمعية وثقافية تكمن في أنّ مَن دمروه وتسببوا بمعاناة شعبه وفتتوه بسياساتهم وعقائدهم وعنجهيتهم .. يجدون دائما من يعيد تأهيلهم، وكأنهم لم يفعلوا شيئا.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *