لا اختفاء للإنسان في الريف

لا اختفاء للإنسان في الريف
آخر تحديث:

ياسين  النصير

ليس في الريف أسرار كبيرة، كل سر يخرج عن نطاق الأسرة يكون مشاعًا، ولكن اسرار الريف ليست كلها على مستوى واحد من الإعلان، فثمة ما هو دفين لا يكشف عن وجهه حتى لو اصبح صاحبه عاريًا، كما هو حال السرد الذي يخص الرجولة والزواج والعلاقة مع المرأة، مثل هذه الأسرار تبقى دفينة جلدها الأول، ولا تخرج للناس إلا بعد موت صاحبها. والكثير من الحكايات المبهمة كانت اسرارا في الريف لم تخرج للعلانية وبعد موت صاحبها اصبحت حكاية مبهمة عن أناس غرباء.الشيء الأكثر التفاتة في الريف والقرى ان من يخطئ لايستطيع ان يلغي أخطاءه بسهولة حتى لو اختفى، فالاختفاء في القرية اختباء مؤقت، بينما الاختفاء في المدينة حضور مغاير للشخص. يستطيع من يخطئ في المدينة ان يغيّر عمله، ومن ثم ان يكون بصحبة آخرين لهم اهتماماتهم العملية الخاصة، كل الأخطاء ترتبط بمتغيرات العمل، في الريف ليس من السهولة تغيير عملك، ولذلك تبقى الأخطاء ملازمة لصاحبها، فضلا عن أن محيط الريف من الصغر لايمكن لأي شخص ان يبقى مختفيًا فيه لفترات طويلة، كما أن تبديل العمل في الريف من الصعوبة أن تجد له بديلًا، لان محيط الريف وطرق التبادل ووسائط العلاقات محدودة الى الحد الذي يسمى الشخص باسم عمله. لايمكن البقاء مختفيًا لفترة طويلة في الريف حتى بالنسبة لعدوك، ولذلك لاتجد ثقافة الاعتذار منتشرة في الريف بل ثمة مكابرة واعتزاز وتبرير للأخطاء، فيأخذ الاختفاء في الريف مسارا حسيًا، في حين يكون الاعتذار جزءا من ثقافة المدينة، ليس لأنه يرتبط بالعمل، إنما بالمتغيرات الكثيرة التي ترتبط بحركة الشخص وهويته ولهجته وطرائق علاقاته بسكان المدينة. وما تتيحه امكنة المدينة من اضفاء شرعية على اختبائه.لا اتحدث عن علم النفس ولا عن علم الاجتماع للمخطئ، إنما تحدوني الرغبة في البحث عن بقايا الانثروبولوجيا في السلوك البشري عبر الكيفية التي تتغير بها هذه السلوكيات عندما تتغير البيئات. ففي الريف حتى لو وجدت مؤسسات فهي ساكنة، ومن تعرف على مراكز الشرطة والمستوصفات في الريف وحتى المدارس يجدها نفسها حتى بعد عشرين سنة، في حين ان هذه المؤسسات تخضع لحركة المدينة المتغيرة حتى لو كان من يديرها من سكنة الأرياف.. مرة اخرى اتحدث عن الاختباء في الريف وفي المدينة، الكثير من السياسيين الذي عاشوا فترات المطاردة والمتابعة لأنشطتهم يختفون في المدن، ولا يختفون في الأرياف والقرى، ربما تكون المساحات الكبيرة كالصحراء والغابات والأهوار مدنا طبيعية تتوه فيها الاشياء، لكن الريف مهما كان فهو بنية مقتصدة ومحددة ولايمكنها إلا أن تكون صنوا للسجن المفتوح. من هنا نجد لمفهوم الاختباء في المدينة مفهوما اقتصاديا، اي مفهوم الاغتراب والبحث عن وجود للذات مغاير لوجودها في الريف، حتى الذات في المدينة تبحث عن افق اوسع لتتجدد فيه وتتغير؛ ولذلك يتغير الشخص في المدينة اسرع من تغيراته في الريف، فالريف يقضم الذات ويقصرها على التكوين الجسدي وخطوط الطول والعرض التي يسلكها الشخص يوميًا، كل شيء في الريف يدلك على المختبئ فيه، بينما كل شيء في المدينة يضيف للمختبئ طاقية اخفاء  جديدة. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *