“لا تقولوا إننا ناضلنا ضد الدكتاتورية والدكتاتور لهذا نستحق السلطة.. لقد صنع الاحتلال من أصغركم دكتاتورا بشعا فاسدا وقاتلا. قولوا الحقيقة إن كنتم شجعانا..” هذا الصوت انطلق من حنجرة رجل من أهل الناصرية منكوب باستشهاد ابنه الوحيد على يد الميليشيات، دون عقاب للمجرم المعروف. ذات الصوت وبذات نبرة الوجع، أو أكثر، يخرج من فم أم بصراوية أرملة حُرمت هي وأولادها من التمتع بالحدود الدنيا من ثروة بلدتها النفطية، لأن مبالغ النفط البصراوي ومحاصيل جباية الحدود تذهب إلى جيوب أعمدة مافيا الفساد لهذا الحزب أو ذاك ولقادة الميليشيات، دون ترك حتى ولو نسبة بسيطة لأصحاب الحق على طريقة “الحرامية” التقليديين.
ابن الموصل يدحض كذبة الديمقراطية المزيفة وتحرير مدينته من داعش، فهو مازال يبحث عن جثة أبيه بين الركام بعد أربع سنوات من نهاية الحرب، وسط ضجيج لغة الأحزاب الفاسدة وميليشياتها في ادعاء حماية شرف “أبناء السنة” من داعش. أكذوبة يكشفها مسلسل التهجير الجماعي المُدبّر من أصحاب الأرض في مدن مثل الصقلاوية وجرف الصخر وحزام بغداد في المشاهدة والطارمية وأبي غريب.
الديمقراطية في عراق 2003 صناعة مُبتكرة للدكتاتورية قدمتها دوائر اليمين الأميركي وشعار الفوضى الخلاقة الذي رفعته تلميذة دونالد رامسفيلد وبول وولفيتز كونداليزا رايس في مقدمات احتلال العراق، الذي من نتائجه التدمير والاستبداد باسم المذهب والطائفة وإلغاء الآخر لصالح الدكتاتورية الدينية الجديدة، بعد السطو السياسي الطائفي على السلطة في بغداد تحت رعاية المرشد الإيراني الأعلى صاحب السلطة المذهبية المطلقة.
لمناسبة الحديث عن أحد أقطاب اليمين الأميركي الذين أنشأوا الحكم الطائفي الجديد عام 2007، نشرت الصحيفة الأميركية واشنطن بوست تقريرا حول فضيحة أحد مخططي تدمير العراق بول وولفيتز، بعد أن كافأه الرئيس الأميركي جورج بوش بتعيينه رئيسا للبنك الدولي. الفضيحة تتعلق بعلاقة عشق بامرأة أميركية تدعى شاها رضا علي، مسؤولة علاقات في البنك، كانت تدير لصالح رئيسها ترتيب العلاقات مع بعض أطراف المعارضة العراقية في الخارج قبل عام 2003، وقصة إرغامها لرئيسها العشيق وولفيتز وجعل راتبها أعلى من وزيرة الخارجية رايس شاعت في حينها. مثل هذا المستوى من المسؤولين الأميركان هم من أنتجوا هذا النمط من الحكام في العراق.
أيها الدكتاتوريون في العراق، الذين عبثتم بجميع قيم وتقاليد الأرض والسماء في بلد أراد شعبه العيش بكرامة، أنتم تسرقون أمواله وخيراته، وأحلتموه إلى شعب فقير
دكتاتورية نظام ما قبل 2003 الفردية جيّرت إنجازات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية التي تحققت خاصة ما بين 1968 و1980 لصالح الحاكم الأول، ذلك لم يشكل ضررا على الفرد العراقي الباحث عن المكاسب غير مكترث بشكل النظام. رغم ذلك قادت هذه الدكتاتورية شعب العراق إلى كوارث أخطرها الخطأ القاتل باجتياح الكويت 1990.
هذه حال الدكتاتوريات الحزبية والفردية، أضرارها أكثر من منافعها، هذا ما دفع الشعوب ومن بينها شعب العراق للبحث عن الحل الديمقراطي السليم والتداول السلمي للسلطة، لأن فيه إذا ما رعاه سياسيون صادقون مخلصون لوطنهم ضمانات عدم التخلي عن العدالة الاجتماعية وحقوق الناس في التعبير عن معتقداتهم بحرية ووفق القانون.
ظروف التدهور الشامل في العراق بعد عام 1990 التي صنعها منظرو ومبرمجو أسوأ حصار عرفته البشرية ورحّب به أدعياء “النضال ضد الدكتاتورية” ولم تدنه جميع منظمات الزيف الإنساني بالحقوق، كانت بحاجة إلى شجاعة سياسية من النظام السابق للدخول في عملية تغيير ديمقراطي والتداول السلمي للسلطة لصالح شعب العراق، وليس خضوعا لهذه الجهة الدولية أو تلك. كان المخلصون الوطنيون الذين قالوا كلمة الصدق واختاروا المنفى يبعثون بهذه الحلول عبر رسائل مباشرة لرئيس النظام الذي أهملها بسبب شبح الخوف من ضياع السلطة الفردية.
اللعبة الأخطر التي نُفذت من تحالف الشر والغدر لملء الفراغ السياسي في العراق هي صناعة المعارضة المذهبية الطائفية بعد عام 1990 التي كان من الطبيعي أن تصبح أداة لدكتاتورية الولي الفقيه الإيراني في ما بعد، وتم إرغام النظام الغربي على قبول برنامجها الحربي، ووفرت لتلك الأدوات من مدّعي الإسلام الشيعي بدعم السني فرص السطو السياسي على السلطة في بغداد. كان هؤلاء قبل هذا الوقت قد وصلوا الدرك الأسفل من داء الجوع والحرمان، مما دفعهم للابتهاج بالعنوان الديمقراطي بلا قناعة صادقة طالما وفر لهم الحماية.
لم تكن هناك أي علاقة فكرية أو سياسية بين قادة المنظمات الشيعية، التي حكمت العراق في ما بعد، وبين الديمقراطية ومناهجها وبرامجها ومن بينها الانتخابات، لأن المنابع الفكرية للإسلام السياسي الشيعي والسنّي لا تؤمن بالديمقراطية.
الأحزاب التي رفعت وترفع الشعار الديني المذهبي، في العراق خاصة، عززت منهج دكتاتورية العقيدة المذهبية الشيعية، الذي قاده ودعا إلى تطبيقه بعد إيران في العراق خميني وخليفته الحالي خامنئي. استطاع ممثلو الأحزاب الشيعية تنفيذ غالبية أفكاره بطرق ملتوية وملغومة في وثيقة دستور 2005 كمقدمات لفرض الحكم الدكتاتوري الثيوقراطي؛ بنود لا علاقة لها بالديمقراطية مثل “أغلبية المكوّن الشيعي” وغيرها، كان الهدف منها تعزيز فرض السيطرة النهائية للنمط الإيراني في العراق.
تفصيلات المنهج الطائفي، الذي أصبح في ما بعد معوّقا لأي محاولات للإصلاح في البلد، تقول ما معناه “إن حكام عراق ما بعد 2003 هم من السياسيين الشيعة ولا يجوز لغيرهم المشاركة في قرارات النظام المركزية، وعلى التابعين من السنة والأكراد وفئات الشعب ومواطنيه القبول والطاعة وعدم الخروج عن هذا المسار المذهبي الجديد، حتى وإن جاءت الانتخابات البرلمانية مغايرة لذلك”.
اللعبة الأخطر التي نُفذت من تحالف الشر والغدر لملء الفراغ السياسي في العراق هي صناعة المعارضة المذهبية الطائفية بعد عام 1990 التي كان من الطبيعي أن تصبح أداة لدكتاتورية الولي الفقيه ي ما بعد
مظاهر قاسية عاشها ويعيشها أبناء العراق ونخبه المثقفة الوطنية، من بينها تصعيد النزعة الدكتاتورية باسم المذهب وبناء ميليشيات مسلحة تحميها، وافتعال النزاع الطائفي، واتهام العرب السنة جورا وظلما بالعناوين التي أهداها لتلك الأحزاب الاحتلال الأميركي لتبرير تصفيته للمقاومة العراقية ضد وجوده، كتهم الإرهاب والبعثية وغيرها، لدرجة إعلان رئيس وزراء، حكم العراق ما بين 2006 و2014، بأن هناك “حربا بين جيش يزيد وجيش الحسين”، إلى جانب تبنيه لعقلية المؤامرة، وهي إحدى مظاهر الدفاع عن الدكتاتورية الجديدة.
من بين تلك المظاهر الهادفة لتعزيز الدكتاتورية المذهبية الجديدة، تعطيل العقل العراقي واستبعاد التقاليد العلمية ومنع أي فرصة لخروج العراقيين من تبعات محنتهم في الحروب بأساليب قسريّة كإشاعة نمط الاستسلام “للمقدّسات” الوهمية وتجريم المعترضين عليها، وتحويل مفردات خرافات الطقوس التي لا علاقة لها بالمسيرة الرائعة لقادة الإسلام الأوائل إلى مفردات لعادات يومية مشاعة، كي يظل الشعب داخل كهف ظلام العقيدة منزوع الإرادة مستسلما للحكم الدكتاتوري الجديد.
الدكتاتورية بثوبها الجديد تستند على مبدأ التقديس “المذهبي” لمختلف الفعاليات التي تحصل في إطار الدفاع عن الوطن؛ في واقعة تحرير العراق من احتلال داعش المُدبر داخليا وخارجيا عام 2014 كان للمرجعية الشيعية في النجف دور مهم في تعزيز معنويات الروح الوطنية عند العراقيين والقتال والاستشهاد من أجل الوطن، وهو المبدأ الذي سبق أن ترجمه العراقيون وجيشهم الأغر في الدفاع عن بلدهم في حرب الثماني سنوات مع إيران. كان مطلوبا تمرير مفهوم “التقديس” سياسيا على تشكيلات شعبية عسكرية لمنظمات ساهمت في معركة تحرير الأرض.
متطلبات الدكتاتورية الغوغائية الجديدة رفض الآليات الديمقراطية في التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات إن لم تحافظ على أقطاب الطائفية والنهب، الأمناء على تنفيذ برنامج تجويع العراقيين وقتل شبابهم الثائر. لا يُسمح بإقامة دولة المؤسسات لأنها تحاصر الدكتاتوريين الجدد. أليس هذا الواقع المر يشكل إدانة واقعية لمرتكزات النظام السياسي الحالي وطلاقا معلنا للديمقراطية؟ لا مكان للديمقراطية بغياب الدولة الوطنية.. لا ديمقراطية مع الطائفية والعرقية ومافيات النهب.
أيها الدكتاتوريون في العراق، الذين عبثتم بجميع قيم وتقاليد الأرض والسماء في بلد أراد شعبه العيش بكرامة، أنتم تسرقون أمواله وخيراته، وأحلتموه إلى شعب فقير مريض جائع، تسوده الأمية والجهل والخرافة والمخدرات، لقد انفرط من أيديكم الوسخة المرتعشة “رَسَن” الحمار المُجبر على قيادة عربتكم، وها هي تتدحرج من أعلى قمة سلطتكم الجائرة المريضة إلى قاع الذل والهزيمة.
هكذا هي قوانين الأرض والسماء، ليس بعيدا ستنتزع الحق منكم ومن أولادكم وغلمانكم وحوارييكم، الذين يعيشون ملذات طغيان الدكتاتوريين، حيث ستذهبون جميعا غير مأسوف عليكم إلى مزبلة التاريخ، ويبقى شعب العراق حيا.