آلاف الأسر تعاني التشرد في واحد من أغنى بلدان العالم
الحكومة العراقية تقصّر في معالجة مشاكل مواطنيها وأموال البلاد نهبا للفساد والمشاريع الفاشلة
عباس سرحان/مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
لم تكن المرة الأولى التي تغرق فيها مدن عراقية بسبب الأمطار. لكنها الأكثر اتساعا وإضرارا بالمواطنين منذ ثلاثين عاما تقريبا الأمر الذي سلط الضوء على جملة من الحقائق بعضها يتعلق بأداء دوائر ومؤسسات الدولة الخدمية والتنفيذية وبعض يتعلق بمدى احترام الدولة لحقوق مواطنيها الأساسية ومنها الحق بالسكن المناسب والبيئة النظيفة.
وإذا كنا في “مركز آدم” غير معنيين بشكل مباشر بأداء مؤسسات الدولة ودوائرها، فنحن نعنى تماما بالدفاع عن حقوق المواطنين، ومن هنا نعتبر ما يتعرض له المواطنون بسبب نقص الخدمات انتهاكا واضحا لحقوقهم الأساسية التي كفلتها القوانين الوطنية والدولية، مثلما نعتبر تبديد الثروة العراقية من قبل الطبقتين السياسية والإدارية انتهاكا آخر لحق العراقيين في الاستفادة من هذه الثروة الضخمة.حق السكن في القانون العراقي .المأساة التي رافقت هطول الأمطار مؤخرا طالت آلاف العراقيين ودخلت إلى مساكنهم فيما جرفت منازل أخرى وأطاحت بغيرها في مناطق مختلفة من البلاد، وهذه المأساة سلطت الضوء على حق آخر مهدور من حقوق المواطنين العراقيين ألا وهو الحق بالسكن المناسب الذي يوفر جزءا من العيش الآمن.والمفارقة أن المادة 30/ثانيا من الدستور العراقي قد نصت على حق المواطنين في سكن مناسب يكفل كرامتهم وألزمت الدولة بتوفير هذا الحق، كما كفلت نفس المادة حق المواطنين بالعمل والعيش الكريم.لكن آلاف الأسر العراقية ما زالت تعيش بلا مساكن خاصة بها، فيما تعيش آلاف أخرى في منازل عشوائية في ظاهرة تعكس بما لا يدع مجالا للشك أن نسبة كبيرة من المواطنين لم تحصل على حق أساسي كفله الدستور، وظلت تعيش ظروفا مزرية الأمر الذي يضع مجلس النواب والحكومة العراقية الاتحادية والحكومات المحلية أمام مسؤولية جسيمة وتقصير واضح إزاء مواطنيها.فلم تكتف هذه الجهات بعجزها عن رفع المستوى المعيشي لمواطنيها بل أقدمت، وتحديدا الحكومات العراقية المحلية في مختلف محافظات البلاد على مفاقمة مشاكلهم عبر قيامها ولعشرات المرات بإزالة منازلهم العشوائية بأساليب قسرية تعسفية وبذرائع مختلفة، فيما كان من المفترض أن تقوم الدولة بحل المشكلة لا مفاقمتها خصوصا والعراق يمتلك ثروات هائلة يتم تبديدها بشكل واضح على مشاريع خدمية فاشلة.ولو كانت السلطات العراقية تدرك مسؤوليتها الرسمية والأخلاقية تجاه مواطنيها لوضعت آلية مناسبة لحل مشكلة الأحياء العشوائية بدلا من اتخاذ موقف معادٍ من سكنة هذه الأحياء وإطلاق أوصاف غير لائقة بحقهم واعتبارهم “متجاوزين” على أراض الدولة، وتناست أن الدولة لا تقوم بدون مواطنين، وهؤلاء هم المالك الحقيقي لثروات البلاد بما فيها الأرض ويقتصر دور الدولة على تنظيم هذه الملكية.ومن الغريب أن يعيش مواطنون عراقيون تحت بيوت بلاستيكية أو خيام، فيما تتجاوز موازنة البلاد 100 مليار دولار سنويا.حق السكن في النصوص الدولية أولت المواثيق الدولية وخصوصا تلك المعنية بحقوق الإنسان، السكن أهمية قصوى وحرصت على التشديد على ضرورة قيام الدول بتوفير هذا الحق لمواطنيها ومن يلجأون إليها هربا من ظروف قاهرة.وقد أكدت النصوص والتوصيات الخاصة بالمفوضية العليا لحقوق الانسان على واجب الدول في توفير السكن اللائق لكل مواطنيها على أن يوفر هذا السكن عناصر مثل الحيز الكافي والحماية من البرد والرطوبة والحرارة والمطر والريح وغير ذلك من المخاطر التي تهدد الصحة. واعتبرت المفوضية العليا لحقوق الإنسان، السكن غير مناسب ولا هو بملائم في حال لم تتوافر لشاغليه مياه الشرب المأمونة، والطاقة اللازمة للطهي والتدفئة والإضاءة، ومرافق الصرف الصحي والاغتسال، ووسائل تخزين الأغذية، وتصريف النفايات.وأولت الفئات المحرومة والمهمشة، مثل الفقراء، والأشخاص الذين يواجهون تمييزاً، وذوي الإعاقة، وضحايا الكوارث الطبيعية العناية الخاصة في الحصول على سكن ملائم.وشددت على ان يكون السكن اللائق في موقع يتيح إمكانية الاستفادة من خيارات العمل وخدمات الرعاية الصحية والمدارس ومراكز رعاية الطفل وغير ذلك من المرافق الاجتماعية وألا يكون مبنياً في موقع ملوث أو في موقع قريب جداً من مصادر تلوث.ومعظم هذه المواصفات، إن لم نقل كلها تغيب عن مئات الأحياء السكنية في عموم العراق، فلا شبكات صرف صحي سليمة ولا شوارع معبدة ولا مطامر نفايات صحية، وهي مؤشرات على أن المواطنين العراقيين يعيشون بشكل عام في ظل بيئة سيئة وليست صحية.العراق يخالف دستوره الداخلي والمواثيق الدولية.لم يكن انتهاك حقوق الإنسان في العراق جديدا بل شهدت هذه الحقوق قبل 2003 وعلى مدى 40 عاما انتهاكات مروعة، وكانت السلطات آنذاك تسلب حقوق المواطنين بالتعبير كما سلبت الآلاف منهم أرواحهم، وكان العراق يتصدر الدول التي تنتهك سلطاتها حقوق الإنسان.وقد كشف انهيار حكم حزب البعث عن مئات المقابر الجماعية التي ضمت رفات ضحايا الرأي والابرياء الذين دفعوا ثمن فعل لم يرتكبوه.ومع إن الأوضاع العامة تحسنت لجهة التعبير والإعلام بعد 2003 غير أن حق المواطنين في العيش الكريم والعمل والسكن والخدمات الصحية والطبية ما زالت في حدودها الدنيا ولا تناسب حجم الثروة الهائلة لهذا البلد.وبرغم أن العراق أنشأ وزارة لحقوق الإنسان لتجاوز المرحلة السوداء من تاريخه قبل 2003 غير أن عمل هذه الوزارة ظل نمطيا بروتوكوليا لم يرق إلى مستوى حل مشكلات جدية تواجه المواطنين بشكل يومي وظلت الوزارة تمارس وظيفة حكومية ولم تجرؤ على انتقاد الحكومة أو الجهات العليا كمجلس النواب المعني بتشريع القوانين التي تهم المواطنين.كما لم تقيّم الوزارة حقوق الإنسان في البلاد بشكل مهني يتناسب مع وظيفتها كوزارة تعنى بجانب مهم من حياة المواطنين ونشاطاتهم، فهي مثلا لم تبد موقفا حيال إزالة منازل المواطنين العشوائية دون بدائل، كما لم تبد موقفا إزاء بقاء آلاف المواطنين دون سكن ودون أن يكون لهم ولأطفالهم مستقر.في المحصلة يخالف العراق دستوره والنصوص الدولية التي وقّع عليها لجهة توفير البيئة المناسبة للعيش، حيث لم تحظ هذه المسألة بالأهمية القصوى لدى السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبما ينهي أزمة المواطنين في السكن والبنى التحتية.ثروة العراق الهائلة ليست في الاتجاه الصحيح بلغت موازنات العراق السنوية منذ 2004 وحتى 2013 نحو 800 مليار دولار، وهو رقم فائق لو قدّر له أن يدار بشكل سليم ويوجّه لحل أزمات البلاد في الطاقة والسكن والبنى التحتية والفقر لأمكن تجاوز هذه الأزمات دون تأخير وينتقل العراق بهذا المبلغ الضخم الى مصاف الدول المترفة، أو على الاقل الدول التي لا تواجه مشاكل متفاقمة كتلك التي يواجهها العراق اليوم.لكن قادة العراق فشلوا بشكل ذريع في تسخير أمواله لصالح مواطنيه وما زال يتصدر قوائم الفساد الدولية التي تنظمها منظمات أممية في مؤشر واضح على أن ثروات هذا البلد لا تذهب بالاتجاه الصحيح إنما يتحول جزء منها إلى مشاريع فاشلة أو متلكئة وجزؤها الأكبر ينتهي إلى جيوب شبكات رسمية وغير رسمية تدير منظومة واسعة للفساد وتبدد ثروة هائلة فيما تتفاقم معاناة شريحة واسعة من المواطنين.وفي نيسان الماضي، نبه المركز العالمي للدراسات التنموية ومقره العاصمة البريطانية لندن الى أن العراق يعاني من تقلبات حادة في سعر صرف الدينار انعكست بشكل واضح على الوضع الاقتصادي للمواطن العراقي.، واعتبر التقرير عمليات غسيل الأموال والفساد المالي والإداري في مفاصل الدولة والتي كلفت العراق نحو ثلاثة مليارات دولار في غضون شهرين فقط في 2012 هي من تقف وراء هذه التقلبات.وبين التقرير أن البنك المركزي العراقي أعلن في أغسطس/آب من العام الماضي أن احتياطاته من العملة الصعبة بلغت 67 مليار دولار أميركي فيما أعلنت الحكومة العراقية أن الأرصدة الوقائية في صندوق تنمية العراق بلغت 18 مليار دولار. أما احتياطي البنك المركزي من الذهب فقد انخفض بمقدار 20%، خلال أقل من عام من قرابة 39 طنا في العام 2011 إلى 31 طناً في العام 2012.ولم يتردد المركز العالمي للدراسات التنموية في اتهام بعض الجهات النافذة في الحكومة العراقية بالسعي إلى الاستفادة من فوائض إيرادات النفط لاستغلال الاحتياطيات التي بناها العراق خلال السنوات العشرة الماضية لتعظيم أرصدتها في الخارج على حساب المواطنين.المطلوب من الدولة لا يمكن لأحد أن يذكّر الدولة بواجباتها فإنما وجدت الدول والحكومات لحل مشاكل البلاد وتنظيم أمورها وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، ومع ذلك يوصي مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات بمراعاة الجوانب التالية:
1- قيام الدولة بتوزيع المجمعات السكنية التي شيدت في السنوات القليلة الماضية ولم توزع لحد الآن، على الأحوج إلى السكن، فيما رصد مركز آدم شكاوى لمواطنين قالوا إن عددا ليس بالقليل من الشقق السكنية في المجمعات المعدودة التي تم توزيعها قد وزعت على متنفذين.
2- تخصيص جزء من العائدات المالية الضخمة التي يذهب معظمها إلى الفساد والى مشاريع فاشلة لدعم جهود الفقراء الذاتية لبناء مساكن مثل تخصيص منحة مالية او قرض ميسر لكل أسرة لا تملك مصدرا للدخل.
3- أن تعمد الحكومة العراقية بالنهوض بالواقع الخدمي لمواطنيها وإنجاز مشاريع ناهضة في مجالات الصرف الصحي والمياه المنقاة والشوارع لتخفف من معاناتهم ولتحافظ على مساكنهم من الأضرار الجسيمة التي لحقت بها بسبب الأمطار وما نجم عنها من فيضانات.
4- يتوجب على الحكومة العراقية ومجلس النواب القيام بدور جاد في مواجهة الفساد الذي يمنع وصول يد الدولة الى الطبقة الفقيرة ومحاسبة الموظفين والمسؤولين المتورطين بقضايا فس