هكذا تحولت القلوب النابضة بالحياة الى مصنوعات خشبية لاقيمة لها يمكن أن تعرض في مكان ما للتباه، أو لتجميل مكان. لكنها لاتصلح أبدا لتكون معبرة عن لواعج وخلجات كما كانت مهمتها الأولى منذ بدء الخليقة. القلب ينبض بالحب، يهتز باللوعة والرغبة بحبيب، لانعرف بالضبط مهماته الشعورية. ربما هي ذاتها التي نتخيلها، والتي يصفونها لنا في أشعار وكلمات وقصص حب وروايات، تزداد دقاته وتتراكض خلف قافلة الحساب.. تك، تك، تك، مثل دقات الساعة. كانت فيروز حين تسأل حبيبها عن وجهة الحب التي يقصدانها تقول، سألتك حبيبي لاوين رايحين؟..ثم تصرخ بآهة لايمكن لمن يهوى أن يعرف كيف تدفقت من روحها..ثم تقول . عام شوفك بالساعة، بتكات الساعة، من المدى جاي ياحبيبي..من هناك ذلك البعيد المترام الذي لايشعر به الجميع، بل يتلمسه البعض ممن أدرك شيئا من أسرار القلوب، ومن الذين ماتزال قلوبهم تقاوم التصحر والتحجر وتشتهي الحب.
تحركنا في جمع، صرخنا بقسوة، إقتحمنا المكان، وكان كل منا يحمل حلما ما، أو يبحث عن سبيل، كل واحد منا لديه قلب، كنت أرى الحجارة تتخفى بين كومة أضلاع ولحم، عرفت إنها قلوب، لكنها اليوم مختلفة، فهي كالحجارة بل أشد قسوة. فمن الحجارة لما يتشقق منها الماء وينفجر نبع يسقى الأرض العطشى، لكن هذه القلوب متحجرة بشكل لايوحي إن أملا فيها لتنبعث من تحتها حياة، ولايكون من أمل ينبعث منها. قلوب جافة غادرها الدم، وصار يتدفق منها سائل أصفر سئ الصيت والسمعة. كانت جثة زميلنا الصحفي محمد بديوي مثل كومة خضار قطعت بعناية ثم جمعت ووضعت في سائل أحمر. كان ذلك دمه الأحمر الذي سال لساعات قبل أن نصل إليه، ولعله سال حتى ونحن وقوف نستعرض مواهبنا في الثرثرة على الفضائيات التي كانت تنقل الحدث. جثة يبدو إن الحياة غادرتها من ساعات، ونفد كل الدم الذي كان في الصباح يتدفق في شرايين صاحبها، الذي خرج بعد أن ودع أطفاله الخمسة وزوجته الحانية، وقاد سيارته من شمال بغداد حتى الكرادة ومجمع الجادرية الرئاسي الذي تعَود إستقبال الضيوف، لكنه لم يتعود توزيع الجثث المدماة، وهو يجرب حظه بقتيل صحفي.
سأختار نوع من الثرثرة مختلف، وسأنتقي الفضائيات الأكثر شهرة وجمهورا، وسأتجنب أن أتحدث لتلك الأقل حضورا، ثرثرتي تختلف، وهكذا كان علي أن أفعل، فإذا ثرثرت بطريقة بقية المتحجرين عند جثة محمد بديوي سأكون تافها، والظروف مختلفة، علي ان أفكر أكثر، صحيح إنه يتوجب علي أن أثرثر بإنتقاء، وأن أسرع في الحديث، لكني مضطر لنوع من الثرثرة يستهوي المشاهدين، كنت أتقزز من الذباب الذي بدأ يغزو الجثة، ويحاول تجاوز حدود (البطانية البالية) التي تطوع بتقديمها مواطن رئاسي يسكن بالقرب من مركز توزيع الجثث الرئاسي، لكن الذباب الذي نهرب منه في بيوتنا لم يكون ليوقف رغبتنا الجامحة في الحديث، ففي البيوت لاتتوفر كاميرات تلفزة، ولاإذاعات، ولا كاميرات فوتوغرافية.
آه أيها القتلى، وقد نكون منكم، هاأنتم مناسبة للثرثرة.
آه … بقلم هادي جلو مرعي
آخر تحديث: