ربما كان لاتساع – الميديا- إيذانا بتزايد الحركة المعرفية بأشكالها كافة، إذ وضع المتابع والمطلع يديه على التحولات والتحركات المختلفة للعالم من حوله، وبدأ المثقفون يبحثون عما يُقرأ من حداثة تارة، وما يتوافق مع مزاجه وأيديولوجيته وأفكاره تارة أخرى، فظهرت برامج وفضائيات ومواقع الكترونية وصفحات متخصصة وصحف ومجلات، وتأسست الكثير المنتديات والمجاميع والصالونات مع صعود أسماء لكتاب ومؤلفين جدد، بعضهم يوظف المفاهيم والمرجعيات التي يقتنع بها أولا. بوصول الميديا إلى غايتها الأساس، تتسارع متغيراتها في حياتنا وتتداخل معها، تداخل من شأنه أن يوقظ الكثير من الأفكار النائمة، لتسارع في أخذ حصتك من هذه الحياة. فلا وقت كي نتأمل أو نخمن، ولا قارئ أو مشاهد سيهتم إن ابتعدنا، ففكرة الكاتب الذي كان يرعى عالمه ويبجله قد تهاوت، وصار بمقدور الشخص البسيط البعيد كل البعد عن المفاهيم والايديولوجيات أن يرشدك إلى الحقيقة التي لم يعد المجتمع بحاجة للبحث عمن يدلهم عليها، لأنها ببساطة تصلهم دون مشقة وعناء. لقد انحلت كل العقد وتفكك المعنى المجهول الذي كان يسيطر الكاتب عليه، وصارت المعرفة بمتناول الكل دون امتيازات في الميديا التي دشنت نمط حياة مختلفة.
وانفتح كل شيء في هذا العالم على ما حاولنا تجاوزه. حتى أن المتابع لم يكتف بهذا الكم الهائل من الحداثة والتسارع الكبير في التطورات، بل صار لا يقتنع بسهولة بما لا يتشكل أمامه بمنطق هذا الوضع. ولكن كيف يحيا الكاتب والأديب بهذه الحياة المليئة بالصعب والسهل وكيف تؤثر الميديا في نصه الذي يكتبه ؟
محمولاته الأيديولوجية
إن مشروع ما بعد الحداثة قد ألقى بظلاله الوارفة على الوجود الإنساني، حتى تحول إلى نسق ثقافي يعلن عن ذاته في اختلاق الحقائق التي يسوقها الإعلام تعبيرا عن محمولاته الأيديولوجية عبر وسائله السمعبصرية، التي تتوسل بنسق تقني متحول أبداً، على حد تعبير أحمد جبار، وهو طالب دكتوراه في جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة/ قسم الفنون السينمائية والتلفزيونية.
فالميديا لا تعمل بشكل صحيح في مباشرتها، كونها تخضع لأيديولوجيات ذات مشاريع تؤسس للعيش متحول دوماً، ومن المصادر المهمة التي تجلت بها تعددية ما بعد الحداثة الثقافية هو – الفيس بوك- الذي يراه جبار بحسب تقديره الشخصي، المثال الصارخ لأفق ثقافي متعدد الأصوات، إذ يقدم الكم الهائل من الحقائق النسبية حيث كل من يمتلك صفحة لديه حائط خاص لمدوناته يفصح من خلاله عن موقفه السسيوثقافي، وباللغة التي تعبر عن أفقه الثقافي.هذه المدونات بنظر- جبار- قد أصبحت نصوصاً معترف بها من قبل المتفاعلين، والمعلقين، وبهذا سيتلمس الناص (كاتب النص) استجابة نقدية سريعة تجاه مدونته. ويعتقد في أنها حالة صحية تتسق مع روح العصر الذي يمتاز بإيقاعه السريع وتحولاته الدراماتيكية الحادة التي يسعى النص نظرية وإبداعا لملاحقتها.
سلاح ذو حدين
ولكن، هل يمكننا ملاحقة الإبداع بروح العصر- هذا- والمقاربات التطبيقية تحيط بنا من كل الجوانب. هذه المقاربات التي تكون على خطين وفق الشاعر والفنان التشكيلي أحمد المالكي. من بين المهام التي تناولها المالكي في هذه المقاربات، الحصول على الأثر النصي لدى المتلقي ومن خلال ردة فعل المتابع والمتواصل مع صاحب ذلك النص، أو.. سارد، المقالة والقصة.
وفي نفس السياق، التركيز على النص ومدى قبوله في تكوين الردود والتفاعلات، فضلا عن نوعية النص، وهذه – تحديداً- قد تتمحور حول نصوص موجه ذات قصد معين، وهي قد تكون مشفرة في بعض الأحيان، وفي البعض الآخر مباشرة الطرح.وكذلك فإن النص الذي يحمل مفاتيح اللغة والحداثة، مها كان توجهه يتعثر بحجرين من المتابعة، الحجر الأول حجر القارئ المصاحب للمصلحة فهو هنا يعكس صورة الإعجاب دون فهم. والحجر الآخر أيضا حجر، الجنس، وأقصد بالجنس هو في انشقاق المتلقي.
هنالك رؤى لكل الجنسين في تقبل نصوص الآخر- بحسب المالكي- تماماً كما الطعام، ربما الأكلة التي تعجبني جدا، لا تعجب الآخر. ويبقى التأثير حاصل مع كل هذه النقاط، سواء كان سلبا أم إيجابا.والنقطة الأهم عند المالكي في أن النص -أي نص- قد أصبح قابلا للدخول في عيون كل التوجهات والفئات العمرية والفكرية والعقلية، ومن هنا يرى الميديا كسلاح ذي حدين للنص قد يرفعه إلى سماء الحقيقة، وقد يدفن في قلوب من يتابعونه هو وصاحب النص.
تأثير سلبي
لو اخذنا النص الإعلامي كما يقول الناقد وجدان عبدالعزيز وهو الذي يرتبط بوسائل الإعلام على اختلافها، ويُثري مادته من كافّة الأجناس الأدبيّة، والأشكالِ الخطابيّة على اختلافها، كالوصف والسّرد، ويتميز بصفات، كالمُباشرة، والوضوح، والاقتضاب، والاختزال، إضافة للعناوين المشوّقة والمثيرة والمواضيع الجادة التي من شأنها أن تفيد أوسع شريحة من النّاس.
ويرى عبدالعزيز، على الرغم من أن هذه التقنيات قد أصبحت تؤدي وظيفة الصحيفة والتلفزيون والإذاعة والكتاب معا، إلاّ أنها تتداخل وتندمج بين وسائل الإعلام والتقنية الحديثة وإلى تنوع وظائفهما وتنافسهما وتفاعلهما، وللاعلام لغته الخاصة كما نوهنا الى ذلك، والتي لابد أن تبتعد عن مناطق “السرد” وتفاعلاته الممتزجة بلغة الشعر ربما، أو بلغة النثر التأويلي الخاص بإثارة مناطق الإحساس والتصوير اللفظي، الذي ينقل المتلقي ليتمثل النص ويعيش داخل بيت بطل القصة متفرجاً على الأحداث من مكان مستتر يشبه الكاميرا
الخفية.
من هنا، فان اشتراطات لغة الإعلام – حسب الناقد- لا بد لها أن تبقى بمنطقتها، وكذلك لغة الأدب، وحين نعمل على مزج الاثنين في منطقة لاتصلح لها، سيكون الوليد تائها لايعرف لمن ينتمي ويترك القارئ في دوامة الدخول في متاهات لغة “جميلة”، لكن مكانها مشتبك بعدم احقية المكان.. ومن خلال هذا التمهيد نجد لكل من النص الأدبي والنص الإعلامي لغته الخاصة، ويعتقد أن تاثير لغة الإعلام على لغة الأدب له تأثير سلبي بدون أدنى شك.