ياسين النصير ليس من حدود لأحلامنا، سواء تلك التي تعشش في المنام، أو تلك التي تشكل يقظتنا الشعرية، كما لا أشكال معينة للأحلام، فمنها المائي والهوائي والناري والأرضي، وحين نتأملها نجدها خليطًا من عناصر التكوين، تؤلفها وتشتق منها صورًا، حتى لتحسب أن الصور الشعرية عجائن لمكونات الأرض،السماء، الإنسان وكائنات المثيولوجيا، وأشكال حياة المدنية، لا شيء يمنع الحلم من أن يتجاز مفاوز الزمان والمكان. فالصور التي تجلب الشعر تفصح عن خيالها المادي، ليس من صورة شعرية لأ تجد فيها العناصر مجتمعة، وأي صورة ينقصها عنصر يعني ثمة خلل في شعريتها. عندما نحلم بصورة السباحة، أوالطيران، أوالفلاحة، أوالسفر، أوالبحر،ستسحب هذه الصور خلفها ما يتعلق بالماء عندما تكون الصورة مائية،فـ” الماء دم الأرض”، وتسحب كل ما يتعلق بصور النار عندما تستحم في موقد النار، او خلف كورة الصانع، فـ”النار داينمو العالم”، تسحب الصور كل ما يتعلق بالفضاء عندما تمتهن الطيران،فـ “الفضاء سفر الامراء”، وتسحب كل ما يتعلق بصور التراب عندما تكون الصورة أرضية،فـ” التراب خصوبة الجذور” وهكذا تجد الثمار مقرنة بالفضاء، وصور المحار والاسماك بالأعماق، وصور بيوت الجيران بالسطوح، وصور الندى بالليل ، وأنت أيها الطائر الحالم، ستكون كل هذه المجازات مندمجا في كينونة صورتك الكونية.عندما نتأمل الصور، يبدأ التفكير، فالعالم الذي نحلم به مجموعة صور مُفكرَّة، والكيفية التي نمسك العالم بها، تتم عبر الجسد، وبالتحديد عبر العين والفم، العين الحالمة والفم القاضم،كلاهما”يعّض” الحلم، كي تكون الصورة مقبولة ومهيئأة للإستعمال الشعري، لابد من عين تراها وجسد يهضمها، تمهيدا لجريان ماء الشعر، ومن هناك تجد العالم عبارة عن صور مهضومة كطعام للمخيلة، فالصورة التي تدمج بين النار والماء تستخلص المطر، وصورة التراب والماء تستخلص الزرع، وصورة النار والهواء تستخلص العواصف والرعد والبروق، وصورة الهواء والتراب تستخلص المحو الأثر وتوليد عاصفة الريح والسفر، اين سنجد شعرية الأشياء إذا لم تكن معارفنا في داخل هذه المكونات صورًا؟، لايكفي الشاعر مؤونة ما انجزه شاعر آخر، ما يكفيه مؤونة السفر إلى محيطات الشعر هو خيال المادة، بعناصرها المتحولة إلى ماء اللغة. فالتأملات كما يقول باشلار هي” المادة الأولى للعمل الأدبي، فالأشكال التي تؤخذ من الواقع هي بحاجة للنفخ بمادة حلمية”.. من يتكلم في القصيدة هل هو الشخصية ؟ أم الضمير؟ ولكن عندما نصل للمعنى ، يقول بوسكو: نجد الشاعر هو الذي يتكلم. لا تأتي الصور اعتباطًا دون اشتغال المخيلة، دون فلسفة التأمل فإنكشافها يعني أننا بدانا في صياغة مخيلة مادية للصور، ففي خزائن الذاكرة، وفي صرار العجائز ، وفي أشياء حياتنا اليومية، وفي الأشكال المحذوفة والعابرة والمهملة والمتروكة، تجد ماهية الأشياء التي بنى بودلير عليها مستقبل الحداثة الشعرية. فما يسعى إليه الصيدلاني الخبير باذواق المرضى، هو أن يختار لأدويته اسماء محببة لمخيلة المرضى بالشفاء، ثم يضعها في اغلفة مريحة لمخيلة الرؤية، فالصور تخلقها جماليات الكلام إذا ما ارتبطت بموقد نفسي للأشتعال، هذه القدرية المبهمة التي تخلقها الصور الحياتية، قد لا نلتفت إليها آنيا، إنما ستظهر عندما تكثر قرائنها في حياتنا، فصورة موقد النار تستحضر في أحشائها: خبرالتنور، ونار نوروز، ومشاعل الصيد، ونار العشق، وسعير العداوة، واحتراق الوداع، وحرقة اللوعة، فالاستعارة الكونية تولد دائمًا في أحشاء صور حياتنا اليومية.