بغداد/شبكة أخبار العراق- مع سقوط السرديات الكبرى, أخذت تناقضات الواقع وجماليات الحياة تتعايش على سطح واحد: الليبرالية مع تفجّر الحروب المبعثرة في العالم/ الديمقراطية مع مظاهر الاستبداد/ حقوق الانسان مع تجارة الرق والجنس والموت/ المجتمع المدني مع الجماعات الدينية المتطرّفة/ حتى صار العالم ينزع نحو التفكك والتشظي والانقسام على ذاته.
وإزاء إخلائيات التغيير الناجمة عن فوضى العالم وخراب الحياة: «ما الذي يمكن أن تقوله الرواية مما لا يمكن أن يقال بطريقة أخرى؟»
لقد تزعزعت الواقعية الروائية بمصادرتها الإنسانية الراسخة, ولم تعد تمتلك القدرة والإمكانية على استيعاب تعقيدات العالم المعولم بتقطبات الأنا وانشطارات الذات, فقد أعلن أحد كُتّاب الرواية, أن «الواقعية المحض انتحرت»، لأن الرواية لم تعد معنيّة بتشخيص الواقع أو تفسيره أو إظهاره أو البرهنة عليه, لأن التحولات التي طرأت عليها, جعلت منها «نوعا ً آخر» اصطلحت عليه مارت روبير بـ»الجنس اللامحدود».
*ولكن هل بإمكان الرواية الأكثر واقعية أن تتطور بطرق غير واقعية؟
ـ نعم، ولكنَّ الأشكال التقليدية, قد استهلِكت بفعل التوظيف المتكرِّر لها في الواقعية من جهة, وليس ثمة ما يكفي من الأشكال الجديدة الأكثر استجابة في تمثيل أخلاقيات التغيير في الرواية من جهة أخرى.
وبذا كان لابد من الاستجابة لطرائق جديدة من الوعي بـ»ضرورة تغيير الأوعية الثقافية السائدة واستبدالها بأخرى, حتى تتحقق شروط الوعي والفعل والتغيير»، خاصة بعد أن تغيّر العالم, وجلب معه هذه التحوّلات إلى الرواية.
وإن كان كارلوس فونتيس قد تساءل في الفصل الحادي عشر من كتابه «جغرافيا الرواية»: هل ماتت الرواية؟ فإننا نتساءل في هذه الورقة: هل ماتت الواقعية؟ وإلا ّ لماذا لم تعد الرواية الجديدة تؤمن بالقضايا الكبرى, حتى صارت تحاكي نفسها؟ هل ضاق الكُتّاب بتقاليد الواقعية التي نادت بمبدأ الايهام بواقعية ما يُروى؟ وإلاّ فما تعليل الخروج على واقعية السرد بالميتا سرديات الجديدة؟
إذن إشكالية العلاقة بين التخييل والواقع, دفعت باتجاه النزوع نحو الشك في طبيعة تصوراتنا عن الواقع وعما هو حقيقي وقائم بذاته, لتعطيل الوثوقية المطلقة والبداهة الساذجة والمرجعية المباشرة للواقعية الروائية.
وقد تنبّه بودريارد إلى أن العالم الذي نعيشه تمّت الاستعاضة عنه بعالم مستنسخ, حيث البحث عن مؤثرات متشابهة لا أكثر ـ العيش ضمن عالم افتراضي ـ يصفه امبرتو إيكو بـ « الكَذِب الموثوق به « , أي خلق واقع غير موجود أصلاً من خلال استخدام إشارات الواقع نفسه، مع الابتعاد عن الانتقائية الآيديولوجية أو المسبقة، التي مارستها واقعية القرن التاسع عشر أو الواقعية الاشتراكية. ولكل ذلك، هل تجاوزت السردية العراقية عماد السرد السابق, لا سيما بعد أن تزعزعت واقعية السرد بمصادراتها الإنسانية الراسخة في أعمال، غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر.
وإن كانت الرواية أحد مجالات السرد, فإننا نلاحظ ثلاث نزعات لأخلاقيات التغيير في الرواية العراقية:
*النزعة الأولى, قائمة على بناء «رواية داخل الرواية», حيث «تجعل القارئ يستجوب الحدود بين التخييلي واللاتخييلي», فالرواية هنا لعبة في بناء الوهم وهدمه بالواقع, لأنها تحاكي نفسها وترفض أن تُصبِحَ «حياة واقعية».
*ويمكن التمثيل لهذه النزعة بـ»سابع أيام الخلق» لعبد الخالق الركابي, ورغم أنها ليست أول رواية عراقية استثمرت تِقنية «المؤلف المنظور» في الرواية عن طريق دخول المؤلف عبد الخالق الركابي في الرواية, فهي أول رواية يمكن الاصطلاح عليها بـ»رواية الرواية» أو «رواية داخل الرواية».
واستثمرت رواية «موت الأب» لأحمد خلف مبدأ القول بما لم تقله الحكاية في الرواية, ورغم أنها أعلنت «موت الأب», إلا أنها تمسّكت بسلطة الاب ومرجعيته السردية.
وتندرج ضمن هذه النزعة رواية «غسق الكراكي» لسعد محمد رحيم, حيث استثمرت تقنية «المؤلف المنظور» في الرواية أيضا.
*النزعة الثانية, قائمة على التوازي بين صناعة التخييل وتركيب الواقع, حيث السرد الذي يستدعى سرداً آخر موازياً له, أي السرد الدال على سرد آخر.
ويمكن التمثيل لهذه النزعة برواية «كرّاسة كانون» لمحمد خضير, حيث قدّم حكاياته من «مِنطقة ما وراء السرد»، وفق شكل مفتوح وعمق غير منظور. وتندرج ضمن هذه النزعة رواية «خسوف برهان الكُتبي» للطفية الدليمي, حيث الجمع بين الريبورتاج الصحافي والسيرة والحكاية والقصة والمقالة.
*النزعة الثالثة, قائمة على تقويض بناء الحكاية من خلال الاستعاضة عن «الحكاية» التي تُروى من تلقاء نفسها بـ»الأنا الحاكية», وهي شكل من أشكال تمرّد الأنا السردية على الأبوة السردية, وقد استثمرت هذه النزعة آلية «مَن يحكي» كسارد افتراضي و»مَن يتخّيل» كقارئ افتراضي, حيث تقود فيها الحكاية الواحدة إلى حكاية أخرى, عبر انشطار حكائي مستمر, يتعارض فيه الاستمرار بالحياة مع الإحساس بالنهاية. ويمكن التمثيل لهذه النزعة برواية «مخيّم المواركة» لجابر خليفة جابر, وهي تمثل أعلى تمرّد في نطاق الأشكال الواقعية للحكاية, ليس لأنها تتجه نحو ذاتها الروائية, وإنما لأنها تنتهك الحدود القائمة بين الجنس والطبقة والنوع.
وتندرج ضمن هذه النزعة رواية «السيد أصغر السيد أكبر» لمرتضى كزار, حيث تتناوب فيها ثلاث ذوات حاكية في تنضيد الحكايات.
ويمكن أن نلاحظ في هذه التمفصلات خصيصة التواصل والتفاصل، أو التماثل والتغاير بين النزعات الثلاث, كالبحث عن رؤى وصيغ جديدة كفيلة بقطع السياق مع الواقعية الروائية السائدة, ومن ثم وصله بالواقعية المتخيّلة؛ كمحاكاة الرواية لنفسها, وتضمين السرد لسرد آخر, والانشغال بالذات الحاكية بدلاً من الحكاية.
ولكن هذه النزعات الثلاث لا تعني بالضرورة موت السرد أو موت الرواية أو موت الحكاية, لأنها تتمسك بأخلاقيات التغيير الذي جلب التحوّل إلى منطقة ما وراء السرد, ورغم أنها غادرت السرد بعد الانغمار به, فإنها تُعنى به ضمناً من خلال قطع السياق ووصله في آن واحد.