مع أنّها ليست جديدة في الكتابة، إلّا أنَّ ماريو فارغاس يوسا عندما شرع بكتابة روايته (كابتن بانتوخا والخدمة الخاصة) يقول شرحتُ كيف اكتشفتُ الفاكهةَ في الأدب، وكيف أصبحتُ متحمّساً لاحتمالات وجودها في الأدب الجاد» لعله وجد في الفكاهة باباً من أبواب التشويق في الرواية، يوسا الذي أخذنا الى عوالمه المختلفة، باحثين عن رواياته العديدة. ترى، هل أجانب الصواب إذا قلت بأنَّ معظم أدبنا العراقي يفتقد الى التشويق؟ سؤال تردّدتُ طويلاً في الإجابة عنه، ربما لأنني، لم أتمكن من قراءة كل ما كُتب فيه، وهو أمر صعب، لكنني، وبحدود ما قرأتُ شعراً ونثراً أستطيع القول: نعم. وهناك العشرات من المصدات الكتابية التي جعلت القارئ يشيح بوجهه عن كثير ممّا يكتب في العراق.
قبل أسبوع أعدتُ قراءة مجموعة قصصيّة، لكاتب عراقي (كبير) توفي قبل سنوات، لكنني، وجدتُ كتابه غير مشوّق لي، حاولت أن لا أبخس حقّه، فلم أستطع، رميتُ الكتاب غير راجعٍ له، ولا متأسفٍ عليه. هناك مادة يصعبُ الإمساك بها، ثم أني وجدتُه خائفاً من الكتابة نفسها، الكتابة التي يعبّر عنها برنار نويل بكونها (جسدٌ آخر) أو هي «لعبة مزدوجة، تمحو الكاتب لكن من أجل أن تحافظ عليه في حركة المحو تلك» في كتاب صاحبنا هناك دائما ما هو مضمر وغير متاح، وفيه تعالم وحرفنة، لست معنيا بها كقارئ تقليدي، أنا أبحث عن المدهش والمفارق والأفكار ايضاً، لكنَّه لم يدهشني، ولم يأخذ بناصيتي لكتابه، فتركته مع (جلالة) كونه في قائمة الكبار. في قعر مكتبتي (كراتين) لعشرات الكتب المُهداة، والمُشتراة، لشعراء وكتاب عراقيين، وعرب وأجانب أيضاً لن أعود لها/ لهم ثانية، لأنّها خالية من التشويق.
من المسلّم به أنَّ أعمال هيجو والكسندر ديماس وديكنز وغيرهم من الأجيال المتعاقبة هي أعمال كبيرة، وهم كتاب عظام وأصلاء، لكنهم كتبوا أدباً يُرضي القارئ المثقف والمتبحر، مثلما يرضي القارئ المتوسط والتقليدي أيضاً، لذا بقيت أعمالهم خالدة في أنفسنا وفي مكتباتنا، ذلك لأنَّ الكتابة عندهم بوصف يوسا «هي طقس يشبه عرض الستربتيز» أي مثل الفتاة التي تحرّر جسدها من ثيابها، تحت أضواء المسرح، متعريةً من خجلها، مفصِحةً عن حقيقتها، فالكاتب يعرّي ذاته الحميميَّة أمام جمهوره، لذا جاءت الأعمال تلك كبيرة، وخالية من مخاوف كتابنا، الذين ترعبهم حقيقتهم، فدأبوا على منحنا الصورة الملائكيّة أو الافتراضيّة عن حياتنا/ حياتهم، فيما الكتابة وبتعبير يوسا أيضاً مثل «البندقية التي أطلقت النار، فهي ما تزال تهتز وتدخن» وبمعنى ما فإن الكاتب بعد انتهائه من كتابته يكون قد أفرغ نفسه من ذاته تماماً.
قبل أنْ أشرع بكتابة الورقة هذه كنت قد أنتهيت من قراءة كتاب سيريٍّ لكاتبة عراقية، فكانت خيبتي أكبر، فلا تشويق، ولا فائدة، ولا همُّ كتابي أيضاً، كتاب باهت، وفقير، ضاعف من خيبتي. هناك من يعتقد بأنَّ الكتابة تعني(أذكروا محاسن موتاكم) ونتيجة لأخفاقي في تحقيق التشويق، ولكي أتوازن في الظهيرة المُغبرّة الخانقة، كثيرة الأعطال، أمس، تناولت رواية صاحب نوبل 2022 محمد النعّاس (خبز على طاولة الخال ميلاد) فأمسك بي (من التي توجعني) هذا الشاب الليبي، فقلت ما قاله أرخميدس: وجدتها. فقد انتهت الخمسين صفحة الأولى، وما زال ممسكا بي، قلت: لأستريحنَّ، فهذا الليل قد ناء بكلكله عليّ، وأنا رجلٌ قارئٌ لا يسهر.
لا معنى للكتابة، أيِّ كتابة، من دون التشويق، ولا تحدّثني عن الأفكار، فأنّها إن لم تُقدّم مشوقةً ستذهب، ولا تحفظ الذاكرة منها شيئاً، ولا تقل لي بأنَّ الحياة العراقية فقيرة وخالية من الدهشة، فليس هناك حدث يصلح وآخر لا، إنما هناك كاتب قادر وآخر عاجز، قرأنا في كتب التواريخ والجغرافيا والرحلات والأنثروبولوجيا و و و، ما مُتّعنا به، لكنَّ متعتنا بأدبنا مفقودة للأسف.
من الجهل أنْ نجد الخطيب في يوم الجمعة يحضّر لخطبته ما يشدُّ به إزر جماعته، ويحبّبهم إليه، ولا نجد كاتباً أو شاعراً يكتب لنا ما يشدّنا ويحبّبنا إليه، إلّا ما رحم ربي. يقول ماركيز: «أكتبُ لكي يفرح الأصدقاء» ولعله قال في مكان آخر: أنا أكتبُ لكي أُحَبْ، لذا ترانا إذا ضاقت سبل القراءة بنا هُرعنا إليه والى أمثاله، فنجدُ ضالتنا عندهم، فيما نُطعم مكبّات النفايات عشرات الكتب العراقية، وليعذرني من يجد القسوة في الجملة هذه، فهذا عمّنا شكسبير يقول: عندما لا تجد من يُنصت إليك اكتبْ، فالورقة تسمعك. وإذا كانت الكتابة تكليفاً لم يكلفنا أحدٌ به، بحسب رولان بارت، إذن، ولماذا نكتب، إنْ لم تكن تحقق الكتابة اختلافاً وخلخلة للكلام؟ إنْ لم تكن تشويقاً وغايةً نتحرّق لبلوغها؟