تشعر آدي موور «جين فوندا» الأرملة في فيلم «أرواحنا في الليل-Our souls at night –” وقد تجاوزت الستين بالوحدة، فتطرق الباب على جارها الأرمل أيضاً، لويس ووتزر “روبرت ريد فورد” طالبة منه أن يأتي لينام معها، في بيتها، فتستدرك، متجنبةً دهشته من الطلب الغريب، قائلة: “ليس من أجل الجنس!” لكنْ، وبعد أكثر من ليلة من وجودهما في فراش مشترك ظلَّ الحديثُ عن الطقس واحداً من الملاذات التي جنبتهما الخوضَ في فعل الجنس، وهكذا كانت “موور” تتفادى الحرج، فتصغي له، أو تأخذه في جولة داخل منزلها، مشيرة إلى الغرفة التي كانت لها وزوجها، ذات يوم، دون الخوض في تفاصيل أكثر.كنتُ قد شاهدتُ الفيلم هذا قبل ثلاث سنوات، لكنني واستجابة إلى مشورة إحدى الصديقات- تصغرني بعقد وأكثر قليلاً- جلستُ وشاهدتُه ثانيةً. متعقباً حياتي على أكثر من سرير “قد أجرؤ يوما على كتابة بعضها في كتاب المذكرات” ومستحضراً سنوات الصِّبا والفتوّة والشباب ومن ثم صورة الرجل المستكين، الذي يقمعُ رغباته بهدوء، محتفظاً بسكونه القلق، في جسده الآن، بعيداً عن سفاسف البطولة، وخارج المفاخرة بين النساء والأنبذة وصراع الأسرّة، وناظراً إلى حياته بمرآة ما صار اليه، غير توّاقٍ إلى خوض مغامرة، ولا ساعياً وراء لذة، حتى ليبدو مكتفياً بما تحقق له ذات يوم، وبيين شبه تامٍّ، يقول بأنَّ الدرسَ كان جميلاً، وأنَّ ما تحصل في السنوات تلك كان استحقاقاً، ولعلَّ بعضَ ما كتبَتُ من قصائدَ كان حصيلةَ ذانك كله. لا أريدُ أن أنصِّبَ نفسي حكيماً هنا، ولست بوارد البحث في الأسباب، التي تجعل الحياة واقفةً عند نقطة ما بسبب العجز أو التقدِّم في العمر، لكنني، وجدتُ السيدة موور «جين فوندا» الأرملة بحاجةٍ إلى اللحظة الحميمية أكثر من السيد ووتزر، الارمل أيضاً.. فقد ظلت تستهجنُ حديثه عن الطقس، ولأكثر من مرة، وحين حدَّثها عن علم أصدقائه «كبار السن» في المقهى بذهابه إلى بيتها والنوم معها لم تأبه لذلك، إنما قالت: «قضيتُ حياتي أفكِّرُ بماذا يقول الناسُ عنّي». وحين طرق البابَ الخلفيَّ عليها ذات يوم لم تفتحه، بل طلبت منه أنْ يدخل من الباب الرئيس، فيما ظلَّ هو يترك مجلسه في المقهى مع أصدقائه متذمراً وحانقاً حال سماعه تقريعهم.
وفي لقطة تجمعهما معاً في الكنيسة حيث لم يبديا اهتماماً واضحاً بما يتلى من الكتاب هناك، سألتُ: هل يمكن أنْ يكون دخولُ المعبدِ معادلاً موضوعياً عند الانسان الذي فقد الجسدَ الآخر، ذكراً كانَ أم أنثى؟ يقول ديكارت إنَّ «الجسم آلة صنعها الله بطريقة منظَّمة، تتجاوز في تفوّقها كلَّ الآلات التي يمكن للإنسان أنْ يخترعها» وبذلك لا أظنُّ بأنَّ الرغباتِ تبلى بذبول الجسد وتراجع الرغائب فيه. دخولُ الجسدِ بغياهب الجسدِ الآخر حقيقةٌ مطلقةٌ في فهم أبديّة الروح، أما حكاية التقدم في العمر أو البكاء على أطلال الجسد ذاته فتشبه إلى حدٍّ بعيد دخول بطليْ قصة «ليلة القبيحين» لـ «ماريو بنيديتي»* بجسدي بعضهما، في الليلة الشهيرة تلك، حيث كان الظلامُ الكامل الذي لفهما، والذي حال دون رؤية وجه احدهما للآخر بمثابة الجسدِ العتيقِ المشترك لايِّ اثنين «رجل وامرأة» في لحظة علوية كتلك سيتلاشي فيها ذبولُ الذراعين، والساقين والعنقين لصالح رغبة طال انتظارها، ظلت كامنةً تبحث عن منفذ لعبورها التقليدي، حيث تتكفل اليدُ رؤية المفاتن، وستعمل الستائرُ المسدلة والابواب المغلقة وقطع الأثاث الصامتة على اكتشاف ما كان مضمراً في الثياب، ولن تُفلحَ مصابيحُ المنزل الأخرى في اكتشاف حقيقة ما سيكون عليه. هناك دائماً، ما لا يستشعر بالأصابع، ولا يرى بعين، لأنَّ زاوية النظر ستنحرف إلى كلِّ ما هو حسيٍّ وذهنيٍّ متخيل، بعيداً عن كلِّ وجودٍ محسوس ومرئيٍّ ومعاين، هناك حيث تنبتُ للذائذِ أجنحةٌ أربعُ لا تسعُ رفيفَها أيُّ سماء. الحبُّ والرغائبُ واللذائذُ تعيدُ تكوين الجسد ثانيةً، تدخله من بلادته فتخلّصه من حقيقته في الزمن الرقميّ، لصالح حقيقته في الميتافيزيق، الزمن الذي لا يتبدلُ بالسنوات، فتفعل به ما فعلته العصيدةُ المشويّةُ في الأسطورة الافريقية، القائلة بأنَّه وعندما حلَّ الموتُ، لأوّلِ مرّةٍ، أرسل الإنسان الحرباءَ تتحرى السببَ، فاخبرَالإلهُ الحرباءَ بانْ تبلِّغَ الانسانَ أنَّه إذا رمى عصيدةً مشويّةً على جثة فأنَّها تعودُ إلى الحياة. كانت حياة آدي مور ولويس ووتزر قد تغيرت ما أنْ تحركتْ يدُ أحدهما باتجاه الآخر داخل السرير، ليكتشفا أنَّ الكنيسةَ ليست مكاناً «خاتمةً» نهائيةً لهما، وأنَّها ليست الطريق تلك التي تنتهي بشجرة ميتة، وكان واضحاً أنَّ المشاهدَ الخلفيّة والحواراتِ الملحقةِ بالفيلم ما هي إلا زوائد، لا معنى لها، إزاء ما يجبُ أن يتحقق في السرير، ولمّا أُضطرا لترك بعضهما بسبب موقف ابن آدي موور المتشدد كان لويس ووتزر يواجه صعوبةً في النوم، على الرغم من انشغاله بتحريك القطار «الدمية» الذي سيظل يدور حول نفسه إلى الأبد.