لا شيء يميز كركوك عن سواها من محافظات العراق، سوى أنها خليط عرقي وطائفي وقومي لكل مكونات العراق منذ أن وجدت كمحافظة مستقلة. كانت جزءا من الموصل، أولا، ثم أصبحت محافظة بموجب القانون رقم 53 لعام 1960.ما يشغل المتصارعين على كركوك اليوم، كما بالأمس، ليس ترابها الذي لا يُقطّر عسلا، ولا مواطنوها الذين لم تقطّر الحياةُ عليهم بما يميزهم عما يتقطرُ من شظف العيش على غيرهم من أبناء العراق. بعبارة أخرى، لا يتصارع المتصارعون على أرض كركوك، وإنما على “ما تحت أرضها”.النفط هو القضية. وإذا كان الرئيس مسعود بارزاني قد وصف كركوك بالنسبة لكردستان بمثابة “القدس” بالنسبة للمسلمين والفلسطينيين، فلأنه يُقدس النفط. بينما المسلمون يقدسون الإسراء والمعراج في القدس. ولحسن الحظ، لا يوجد تحتها نفط، وإلا لكانت قد تقدست لأسباب أُخر.الإنجليز الذين احتلوا العراق كانوا يعرفون أهمية الموصل لاقتصاد دولة حديثة في العراق. ومن قبل أن تبدأ أولى عمليات استخراج النفط في الولاية، فقد حرصت بريطانيا على أن تضمن اعتراف تركيا بأن الموصل أصبحت جزءا من دولة العراق الجديدة.
ما يشغل المتصارعين على كركوك اليوم ليس ترابها الذي لا يُقطّر عسلا، ولا مواطنوها الذين لم تقطّر الحياةُ عليهم بما يميزهم عما يتقطرُ من شظف العيش على غيرهم من أبناء العراق. بعبارة أخرى، لا يتصارع المتصارعون على أرض كركوك، وإنما على “ما تحت أرضها”في العام 1924، عينت “عصبة الأمم” لجنة تحقيق لدراسة الوضع في ولاية الموصل، وأوصت بمنح الولاية للعراق، وهو القرار الذي اعترفت به تركيا في معاهدة تم توقيعها في أنقرة في 5 يونيو 1926، مع تعويضات صار يتعين على العراق أن يدفعها لتركيا.
على هامش هذا الحدث، فقد بدا أن التعويضات أثقلت كاهل الحكومة العراقية الناشئة، بينما بقيت تركيا تطالب بديونها لأنها صارت هي نفسها غارقة بالديون وانهارت قيمة سنداتها لدى المصارف الأوروبية. فما كان من وزير المالية العراقي الأول حسقيل ساسون، وهو يهودي، سوى أن اشترى تلك السندات بـ”تراب الفلوس”، فلما عادت تركيا لتطلب من العراق أن يسدد لها التعويضات، دفع لها ساسون تلك السندات ليحرر العراق من العبء. فكان أمرا لم يفعل أي وزير مالية آخر في العراق شيئا بمستواه. وبالتأكيد ليس وزراء مالية جمهورية نوري المالكي، الذين يدفعون إتاوة لإيران من باب الحب والغرام بجمهورية الولي الفقيه.
تم اكتشاف النفط في كركوك في العام 1927 في حقل “بابا كركر”. وبدأت عمليات الاستخراج في العام 1934، وظهرت حقول أخرى، وسط تقديرات تقول اليوم إن اجمالي احتياطات النفط في كركوك يبلغ نحو 10 مليارات برميل.وهذا هو ما يجعل كركوك “قدسا” من أقداس المال، بالنسبة لكل الذين يدّعون وصلا بليلى، “… وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا”.
سكان كركوك حسب إحصاء العام 1957 كان 48 في المئة منهم أكرادا (187593 نسمة)، ومعظمهم في ريف المدينة، و24 في المئة منهم عربا (109620 نسمة)، و21 في المئة تركمانا (83371 نسمة)، والباقي أقليات أصغر من مجموع 388839 نسمة.
والحديث عن “فسيفساء عراقي” تجسده كركوك، صحيح وغير صحيح. صحيح، إذا نظرتَ إلى المزيج الذي ظل يشكل سكان المدينة واحتفلتَ به كنمط من أنماط التنوع والتعايش. وغير صحيح لأن الغايات منه ظلت تتقصد إبعاد أكراد المدينة من حساب الأغلبية. كما أنه غير صحيح أيضا، لأن مقدسات المال في كل ثروات العراق، توجهت لحساب الدولة، ولم تأخذ، إلا بالجزئي والقليل، حقوق مواطنيها في تلك الثروة. والنزاع قائم إلى اليوم، على أساس نظرية أن “كركوك لنا”، وليس على أساس أن ثروات العراق لكل مواطنيه بالتساوي.
جمهورية نوري المالكي، هي جمهورية صفقات محاصصة، حسب طبيعتها الدستورية. ومن هذه الصفقات الصبيانية فقد أرادت أن تعيد الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى مقره في المدينة، ليشم عطر ليلى، ويعود ليعيش بالقرب منها. بينما كان الأهالي من العرب والتركمان، يشمون رائحة الجثث في قنوات الصرف الصحي التي ألقاها المغرمون الأكراد بليلى انتقاما من مغرمين آخرين نافسوهم على حبها.
والصفقة إنما تقضي بأن يسيطر نوع من تحالف بين المالكي وبارزاني على مجلس المدينة في الانتخابات المحلية المزمعة في 18 ديسمبر المقبل.جمهورية نوري المالكي، هي جمهورية صفقات محاصصة.. ومن هذه الصفقات الصبيانية فقد أرادت أن تعيد الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى مقره في المدينة، ليشم عطر ليلى.. بينما كان الأهالي يشمون رائحة الجثث في قنوات الصرف الصحي
ومثلما هو الحال في الجمهوريتين معا، جمهورية المالكي وجمهورية بارزاني، فإن هناك طرفا ضائعا باستمرار، كما أن هناك فقرات في جداول المال لا تظهر لأحد.الطرف الضائع هو الناس من دون تسميات. والفقرات الضائعة هي صفقات وعقود النهب.
تبلغ عائدات العراق السنوية من النفط نحو 120 مليار دولار. وهناك 45 مليون مواطن، كان يفترض أن يكون نصيب كل فرد منهم 2666 دولارا سنويا.ويبلغ عدد سكان كركوك الآن نحو 1.75 مليون نسمة. ما يعني أن حصة المدينة من إجمالي عائدات العراق النفطية تبلغ 4.66 مليار دولار سنويا. ولو أن الحسابات كانت مكشوفة لتقول لمواطني المدينة إن دائرة هذا المبلغ سوف تتقسم على نسب للخدمات والتعليم والصحة والبنية التحتية والأمن والوظائف وغيرها، فإن الوصل بليلى لن يعود هو لغة الخداع المتداولة بين المتنافسين الذين يريد كل منهم أن يحتكر ليلى لنفسه. كما لن يعود مهمّا أن تكون كرديا أو تركمانيا أو عربيا. يكفي أنك مواطن. وحصتك هي ذاتها أينما ذهبت. تأخذها في كركوك، مثلما تأخذها في الأنبار، أو السليمانية.
ولكن هذه الطريقة في الحساب ليست هي الطريقة المعتمدة، لا في جمهورية نوري المالكي، ولا في جمهورية مسعود بارزاني.
أولا، لأنها تتطلب كشفا للدفاتر. وهذه فضيحة.
وثانيا، لأنها تعيد توزيع الثروة على “مواطنين”، بينما تنظر لهم الجمهوريتان بمنظار آخر: كردي، سني، شيعي،.. إلخ. وتوزيع الثروة على “مواطنين” نظرية لا تتلاءم مع دستور المحاصصة.
والأزمة في صورتها الحقيقية هي أن كركوك قدس وليلى. “وليلى لا تقر لهم بذاكا”، فـ”إذا اشتبكت دموع في جفونٍ – تبيّن مَنْ بكى ممَنْ تباكى”.