امتازت الرواية العراقية المعاصرة، ما بعد 2003 بتجربتها لعدة انماط كتابية وعدة اليات، فمنها ما كانت تحاكي اشكالا قديمة في اسلوب الكتابة ومنها ما جربت طروحات ما بعد الحداثة وفرضياتها ومنها ما بقيت تراوح في المنتصف، ومن تلك الاليات العتبات النصية، والميتافكشن واسلوب التشخيص التي استخدمها الروائي نعيم آل مسافر في الرواية التي بين ايدينا (اصوات من هناك) 2017، وهي الرواية الثانية للروائي.
إذ يتخذ السرد فيها مسارين هما المسار الاول “الخارجي” الذي يكون السرد فيه موجها ضمن القصة الاطارية بلعبة الميتافكشن، وكما يظهر في المقطع الاستهلالي المعنون (همس)، حيث ان هذه الالية وما فعلته من خلال كسر الافق الإيهامي لمجمل دلالات النص، ستؤطر ردود افعالنا تجاه كل حكايات النص المضمنة في متن الرواية ودلالاتها، بالإضافة الى ذلك فقد وظفت هذه العتبة النصية توظيفا دالا، ويمكن عد هذه التوظيف – ان جاز لي القول- اسلوبا كتابيا للروائي نعيم آل مسافر، وان كان من غير الممكن ان نتلمس اسلوبا خاصا لآل مسافر من خلال عملين روائيين فقط وهما نتاجه في جنس الرواية، ولكننا رأينا انه قد وظف عتبة للنصين -ان كان في هذه الرواية ام في روايته السابقة “كوثاريا- كانت عبارة عن قصة اطارية تلم حكاياته التي ضمنها داخل المتن، حيث تحمل هذه العتبة بالإضافة لكونها اطارا، الكثير من الاشارات التي تنطلق منها لتتعالق مع دلالات النص، لتخلق مسارات بنائية تتعاضد وتلتم في سقف تلك القصة الاطارية (كلما مررت بجانب النهر، لاح لي ذلك التل الصغير على ضفته…الخ)، او عندما يخاطبه التل ص7، والمسار الاخر “الداخلي” الذي يكون فيه السرد موجها الى احد الشخصيات داخل الرواية والذي ربما يتجلى فيه لتشخيص.
حيث نرى ان الرواة في هذه الرواية توزعوا بين شخصيات بشرية كـ( يوسف، مطر، يحيى، جمهورية، روزا)، وامكنة كـ( تل ساسة، نهر ساسي، قرية الجدي، ستوكاديارز (المتحف)، بستان الحساوي)، وازمنة كـ( يوم الجز، ليلة العري، يوم الذرعة، ليلة الدخول)، والاشياء غير الحية كـ(طبق سحري، جلسة تحضير الارواح، سفينة فخارية، التابعة، قاعدة اسماء، تمثال)، حيث يظهر المتن التشخيصي الذي وظفه الروائي ، فالتل والنهر والزمان والمكان في رواية (اصوات من هناك) حملت صفات بشرية إذ انها تتكلم وتشعر وتبدر عنها ردود افعال انسانية، ولكنها بقيت تراوح في المدى او الفضاء الثاني لبنيتها الاستعارية، حيث انها كاستعارة تفتح فضاءين دلاليين؛ هما الفضاء المرجعي والفضاء الاستعاري
، فللتل ربما دلالة او علامة سيميائية كمثل أثري كما قدمته الرواية قبل ان يشخصن استعاريا في المتن او الفضاء الثاني، فسيختلف الامر لو جسدت او جسمت هذه الاشياء وأخذت دورا انسانيا، ربما كما فعل جورج اورويل في (مزرعة الحيوان) مثلا، حيث ان حيوانات أورويل اقتربت اكثر نحو/ وانحازت الى فضائها الاستعاري ، الذي اقتلعها من كينونتها، بينما شخصيات رواية (اصوات من هناك) حافظت على مرجعياتها السيميائية، لذلك اشتبك كلا طرفي تلك الاستعارة او فضاءيها المرجعي والاستعاري.
توزعت الرواية على مجموعة من المقاطع، او الحكايات التي تناوب فيها الراوي مع مجموعة من الرواة الاخرين؛ على سرد الحكاية، وهذا الاسلوب البوليفوني، يختلف ربما عن الصيغة المعتادة في الرواية العراقية، حيث تناوب الزمان والمكان والشخصيات الروي، وبالأسلوب الذي اشرنا اليه سابقا وهو اسلوب التشخيص، إذ اعتدنا على ان الشخصيات البولفونية هي شخصيات انسانية او على اقل تقدير حية، فلم يظهر هذا التعدد البوليفوني بالصورة التي في رواية آل مسافر أي الصورة التقليدية المتعارف عليها، وانما تناوب الزمان والمكان وما يؤثثهما من اشياء مادية وأزمان محددة على سرد الحكاية، من خلال زوايا تبئير مختلفة.
استخدم الروائي نعيم آل مسافر هذه الاليات التي اشرنا اليها سابقا، وهي (العتبات النصية والميتافكشن والتشخيص) بطريقة جعل منها بوابات منفتحة احدها على الاخرى، حيث ان العتبة النصية التي اشرنا اليها وهي (همس) كانت اطارا للميتافكشن، بعد ان ضمت قصة اطارية، يعيد فيها الكاتب الافتراضي كتابة الهمسات/ الحكايات التي كان يرويها التل واشياؤه، بعد ان فقد (ملف) الحكايات، ليوظف آلية التشخيص ، بجعل ذلك التل والشخصيات التي ذكرناها تروي بضمير المتكلم تلك الحكايات المفقودة، لذلك اصبح ذلك الاستهلال/ العتبة نقطة تشكل مسارات الرواية (الخارجية والداخلية)، وهذا هو بالضبط ما فعله نعيم آل مسافر في روايته السابقة، مع اختلاف تلك المسارات والاليات.