كل من يقول لك إن أمريكا قد ترحل عن العراق وتتركه للنظام الإيراني، بناسه وأرضه ومائه وهوائه، ليستولي على وزاراته ومؤسساته، ويُعطل إعماره، ويمنع عودته إلى وضع الدولة المتحضرة الآمنة المزدهرة المتماثلة مع محيطها الإقليمي، قل له إن هذا من رابع المستحيلات.
ويبدو أن الأحداث المحلية العراقية والإقليمية والدولية المستجدة، خصوصا في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، تؤكد هذه الحقيقة. فقد عجَّلت في تراجع إدارة الرئيس جو بايدن عن سياسة البال الطويل التي انتهجتها مع إيران، طيلة المدة الماضة، وجعلتها تعود إلى العراق، ولكن بوجه مختلف وجديد.
وأول علائم هذه العودة وصول سفيرة أميركية جديدة ذات خبرة مخابراتية شرق أوسطية إلى العراق.
وكان يمكن أن يمرَّ هذا الحدث، كغيره من الأحداث المشابهة، بسلام.
ولكنه يصبح أكثر من عادي، وفيه شيء جديد، حين نتدبر تصريحها الذي دشنت به عملها الجديد، بعد تقديمها أوراقَ اعتمادها الى الرئيس الدكتور برهم صالح، واجتماعها المطول مع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، والذي أكدت فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية تجدد التزامها بـ “دعم عراقٍ آمن ومستقر ومزدهر لكل المواطنين”.
والقاريء العراقي اللبيب يدرك المعنى الذي عنته السفيرة بعبارة (لكل المواطنين)، خصوصا إذا دققنا في الخلفية المهنية والعملية والعلمية للسفيرة الجديدة المرسلة إلى العراق في وقته الحاضر العصيب.
فالسفيرة ألينا رومانوكسكي اكتسبت خبرة معمقة في شؤون العراق والمنطقة، على مدى أربعين عاماً من العمل في وكالة المخابرات الاميركية وفي وزارتي الدفاع والخارجية، كخبيرة في الإرهاب، ومتخصصة في شؤون الشرق الاوسط، تحديدا، إضافة إلى أنها درست في جامعة تل أبيب، وتعلمت اللغتين العبرية والعربية.
والمهم أن تعيينها جاء متزامنا مع تجديد الرئيس الأمريكي قرار حالة الطواريء في العراق، بعد أن كان مقررا أن ينتهي العمل به في 22 مايو/أيار الماضي.
وفي رسالة التجديد التي بعث بها إلى رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، وإلى نائبته التي ترأس مجلس الشيوخ، كامالا هاريس، قال،
“إن العقبات التي تعترض إعادة الإعمار المنظم للعراق، واستعادة السلام والأمن في البلاد، والحفاظ عليهما، وتطوير المؤسسات السياسية والاقتصادية هناك، لا تزال تشكل تهديدا غير مألوف وغير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة”.
وهذا يعني أن الإدارة الأمريكية الديمقراطية تعتبر العراق بنداً وطنياً داخليا من بنود سجلها الفيدرالي، وليس كغيره من الدول الحليفة في المنطقة يكتفي الباقون من الضباط والجنود الأمريكيين بتقديم الخبرة والتدريب والتأهيل لقواتها المسلحة، باسم محاربة الإرهاب.
فالقرار الجديد يعطي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية كامل الصلاحية لحماية المصالح الأمريكية في الداخل العراقي بأكمله.
كما أن هناك قراراً مهاً آخر خطيراً باسم AUMF ، ويعني إجازة استخدام القوة العسكرية،(Authorization for Use of Military Force) ما زال فاعلا، وهو الذي استند إليه الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن لغزو العراق، كما استخدمه الرئيس السابق دونالد ترمب لاغتيال قاسم سليماني ومهدي المهندس في مطار بغداد.
ولعل هذا هو الدافع الذي يجعل النظام الإيراني يتعجل الضغطَ على القوات الأمريكية القليلة الباقية ليجبرها على الرحيل السريع من العراق، باسم السيادة الوطنية، بقرارات البرلمان العراقي وهتافات نوابه الولائيين، أو بالصواريخ والمسيرات التي تطلقها المليشاتُ الولائية ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا.
ثم، لا يمكن إغفالُ أمور عديدة أخرى تتعلق بإيران حدثت كلها بتوقيتٍ واحد إلى جانب تعيين السفيرة المخابراتية وتجديد حالة الطوواري في العراق، وهو ما يصعب اعتباره مصادفة.
ففي نفس الوقت يأتي اتفاقُ الكونغرس والبيت الأبيض على تجميد تصويت الكونغرس على إلغاء قانون AUMF، وصدور الإعلانُ الأمريكي النهائي عن إبقاء الحرس الثوري ضمن قائمة الإرهاب، ورفضُ رفع العقوبات المفروضة على إيران، بل إضافة عقوبات جديدة، وعودةُ بايدن إلى تسخين تحالفاته الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية، تحديدا، ومع ودول أخرى مُطبعة مع إسرائيل، وتصاعد عمليات تصفية العلماء والقادة الأمنيين والعسكريين الإيرانيين، وتزايدُ الانفجارات والحرائق في مؤسسات ومواقع إيرانية حيوية حساسة، والمتهمة بها إسرائيل، وإعلانُ رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، عن انتهاء (حصانة) إيران، وإعادة تأكيد التصريح الأمريكي الإسرائيلي عن الإصرار على عدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي، وتصاعد الغليان الشعبي والتظاهرات والاعتصامات في عشرات المدن الإيرانية التي اتَّهم المرشدُ الإيراني علي خامنئي قوى الاستكبار الكافرة بتدبيرها.
وإزاء كل هذه التطورات لم نعد بحاجة إلى مزيد من التحليل والتدقيق لنفهم أن المواقف تتغير، والمصالح تتبدل وتحشر النظام الإيراني في الزاوية، وتجعل لزاما عليه أن يتخد أحد قرارين،
إما الاستمرار في العناد والتصعيد والمكابرة والابتزاز والاستفزاز، والدخول في مواجهة حاسمة حازمة مع الجبهة العريضة الأمريكية العربية المعارضة لسلوكه العداوني، وتحمُّل عواقبها التي لن تكون بردا وسلاما عليه بحساب القوة العسكرية والاقتصادية،
أو الرضوخ للأمر الواقع الجديد، والبدء بتخفيف وجوده في العراق، وقطع تمويل المليشيات والعصابات الإرهابية في الدول العربية، وتجميد علاقاته العسكرية والنفطية والاقتصادية مع روسيا والصين، وأخيرا عودته إلى داخل الحدود الدولية لإيران وعدم الخروج منها مجددا.
وفي الحالتين، حالة الحرب وحالة السلم، سترحل إيرانُ الحرسِ الثوري وفيلق القدس عن العراق، ويعود إلى أهله سالما ومعافى، وبلا نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي ومقتدى الصدر وفالح الفياض، ومليشاتهم، أجمعين.