{أنشودة المطر}.. مُعلّقة الشعر الحديث

{أنشودة المطر}.. مُعلّقة الشعر الحديث
آخر تحديث:

  باقر صاحب

في السادس والعشرين من  شهر كانون الأول من كل عام،  تمر علينا ذكرى رحيل عراب الشعر العربي الحديث بدر شاكر السياب، الذي انطفأ وهج روحه الملتاعة بالشعر والغربة والمرض في شتاء بارد من عام 1964.ولاستدعاء بعض من ألقه الشعري الوثاب بروح المغامرة والتحديث، نراجع، وبتواضع جم، وبحسب مقدرتنا القرائية الانطباعية، نصه الشعري الخالد “أنشودة المطر”؛ الذي كان في الوقت نفسه عنوان أحد أهم مجموعاته الشعرية. منذ الاستهلال يشدّ السياب القراء والمهتمين بشعره:

“عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ 

 أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمرْ”. 

 فهو غزل حديث، يتعدى شخصانية المرأة التي يتغزل بها إلى حدود كبرى وأقانيم واسعة، عبر تراكيب “غابات النخيل” و”ساعة السحر” يمزج الذاتي بالعام، فليس هناك أرحب من غابات النخيل، وليس هناك من دلالة زمنية مثل ساعة السحر، الساعة الانتقالية من الغموض إلى الوضوح. وحين يقول “أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر”، يبدأ بترسيخ بؤرة الغياب، ودلالته الأخرى الظلمة، وستشيع تلك البؤرتان في غالبية أبيات القصيدة. 

يمكن القول إن عنوان القصيدة “انشودة المطر” له ترجيعات مبثوثة في متن القصيدة، إذ يرجّع السياب بتكرار ملحوظ: “مطر.. مطر.. مطر” هذا التكرار هو عاكس لارتطام القطرات بروح الشاعر، أو محاكاة لصوت القطرات وهي ترتطم بالقاع، وبالتالي أن الشجن الذي يبعثه سقوط المطر، كأنما هو دمع السماء، عاكساَ ذلك بقوله:

“أتعلمين أي حزن  يبعث المطر

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر”. 

عظمة هذه القصيدة تكمن في الخروج المحتدم للشاعر من الذاتي إلى الاجتماعي والسياسي، من رومانسية المطر وأجوائه السحرية إلى الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في العراق آنذاك، ليتحول  الشاعر إلى ناقد لتلك الأحوال: 

“وكُلّ عَامٍ حين يعْشُب الثَّرى نجوعْ

ما مَرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جُوعْ”. 

 ومن ثم يغوص السياب عميقاً في التراجيديا العراقية الموغلة في القدم، في تصوير فنتازي، يلمح إلى أن العراق، هو في حقيقته بركان ساكن، لا يعرف أحد متى يتفجر:

“أكاد أسمع العراق يذخرُ الرعود

 ويخزن البروق في السهول والجبال”.

يطول الحديث ويتشعب، عن انصهار الثنائيات الكبيرة في “أنشودة المطر” الذاتي بالموضوعي، الماضي المؤلم بالحاضر القاسي، والأخير بالمستقبل الزاهر، الاستكانة والخضوع بالثورة. وبصورة أكثر شمولية نقول أن عظمة “أنشودة المطر” ماثلة في تحويله ما هو ذاتي في سيرورته  من حزن، ويتم، ومرض، وفقر إلى ما هو عام ماثل في مأساة العراق، والجوع، والثورة، والأمل. إنه شاعر نحيل مهدود الجسد بالأمراض، خرج من قريته البصرية جيكور، ليغير خريطة الشعر العربي من كلاسيكيته المقيتة إلى حداثته التي لا حدود لها:

“وَكُلّ قطْرةٍ تُراقُ منْ دمِ العبِيدْ

فَهي ابْتسامٌ في انْتظَارِ مبْسمٍ جَديد

أوْ حُلْمةٌ تَوَرَّدتْ علَى فَم الولِيــدْ

في عالَمِ الغَد الفَتِيّ، وَاهِب الحَيَاة”.

تخرج القصيدة من مضمونها المطري المشبع بالخصوبة وانتعاش الحياة إلى مناخات تراجيدية، حيث الغربة على الخليج، ومناداته له بدلالاته المتناقضة بين الحياة والموت، وهنا تتضمخ القصيدة بأبعاد أخرى،  مثل التنبؤ بالموت على الخليج، حيث مات الشاعر في المستشفى الأميري بالكويت:

“أصيح بالخليج: يا خليج 

 يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى! 

 فيرجعُ الصدى 

 كأنه النشيج: 

يا خليج

يا واهب المحار والردى.”

عالم القصيدة فيه من السعة، ما يضم مخزونات طفولة السياب، صور قاسية ووقائع حزينة اقترنت بفاعلية المطر، فهطوله الغزير يبعث الحزن  والشعور المرير بالضياع،  حيث يتداعى عند الشاعر فقد أمه –وعمره ست سنوات، كان شديد التعلق بها. كانوا يواسونه بالقول: بعد غد تعود.. ولكنه أدرك بأن  كل ما هو جميل يموت، بات  المطر، الذي هو رمز الحياة والخصوبة  في شعر السياب، تذكيراً بالأحزان وفواجع  الموت.

من مقاربتنا لأعظم قصائد السياب نوقن بأنها مكتوبة بدمه وبجسده الناحل المنهك بالأمراض. المفارقة أن جسده يذوي تدريجياً، وهو يكتب عن خصوبة الأرض، كان يتنفس بصعوبة وهو يكتب عن الهواء والمطر. 

وحُقّ للشاعر اللبناني عباس بيضون في مقالة له منشورة في “العربي الجديد” اللندنية، القول بأن قصيدة السياب المطرية معلقة معاصرة، لماذا “من دون أن ننسى أن هذه التسمية تردّنا إلى أوائل الشعر العربي، إلى المطولات الشعرية العصماء في الشعر الجاهلي. داعينا إلى ذلك هو أن أنشودة المطر، مثلها مثل المعلّقات، لا تقف عند موضوع واحد، ولا حالة واحدة، ولا مجرد لحظة أو ميقات، بل هي سفرٌ شعري كامل، في الحياة وفي الوقت وفي الموضوع وفي الجوّ وفي الخيال وفي الحكاية”، ويخلص بيضون إلى القول “أنشودة المطر لا تصل فقط إلى أسطورتها المطرية، إنها تستدعي أثناء ذلك ما يتداعى منها، الخليج بخاصة. لكنها أيضاً ترتدّ إلى زمن سالف، إلى طفولة وإلى أُمّ، لكن المدى الأشمل الذي يكاد مطرها يتقطّر فيه، تكاد أنشودتها تتنغم فيه، هو العراق” نعم هو العراق، الموضوع الاشمل للقصيدة الذاتية – الجمعية بأروع ما يكون الجمع بينهما. في أجوائنا المطرية، التي تسود كل أرجاء العراق الآن، ربما غالبيتنا نتذكر نشيد السياب المطري “مطر.. مطر.. مطر”، ليسطر بذلك النشيد الخالد أحد أعظم قصائد الشعر العربي الحديث، التي عبر فيها عن براعة شعرية فذة، للأسف الشديد والحزن الممض فقدناها، برحيله المبكر عن ثمانية وثلاثين عاماً. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *