منذ سنوات أقرأ للكاتبة المبدعة ابتهال بليبل نصوصها الصحافية والأدبية المتخيّلة، فأشعر بالبهجة بإزاء جماليات ما تكتب سواء كان شعراً نثريا أو سرداً قصصياً أو منثورات تقريريّة تسجيلية صحافية، وهو مؤشِّر تواصل لقولها الإبداعي في عموميته. يتناول كتابها الجديد (نيكروفيليا بشريط ملّون) الصادر عن منشورات أحمد المالكي في بغداد تجارب، لإناث مررن في حياتها فأبت أن يكنَّ عابرات، حتى أن تجربتها الكتابيّة فيه تنصرف إلى استقراء وضعيّات أنثوية على نحو تسجيلي تقريري بحكم اشتغالاتها بالصحافية الميدانية.لكن المؤلّفة تريد لما تكتبه أن يكون نصاً جمالياً في عمومه وإن ظهر أنه يسرّب الواقع – الواقعي، ومنْ منّا يستطيع التعالي على ما يجري في مجتمعاتنا التي نعيش أورامها في ظل شتى أشكال النزوع القمعي الذكوري والقمعي السلطوي الّلذين تواجههما المرأة في المجتمع؟
انجذاب شاذ
لنا أن نتوقّف عند عنوان الكتاب (نيكروفيليا بشريط ملّون)، لا سيما أن ملفوظ نيكروفيليا (Necrophilia) هو في أبسط تعريف له “انجذاب جنسي أو فعل جنسي إلى الجثث، ويصنّف الانجذاب على أنه أحد أنواع الشذوذ الجنسي تبعاً للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية الصادر عن الجمعية الأميركية للأطباء النفسيين” (انظر: Wikipedia). وهي ظاهرة مرَضيّة جرّبها أشخاص منذ سالف الأزمان؛ بل وتمثَّلها المبدعون عندما شغلت مخيالهم الإبداعي فكتبوا فيها نصوصاً عتيدة. ويأتي التعبير المكمل في العنوان “… بشريط ملون” كدال سردي يُحيل على عالم الأنوثة؛ فالشريط أداة زينة للمرأة، ولكونه ملوَّناً تراه يؤصِّل دلالة الأنوثة في طاقتها التجميلية؛ فالنساء يستخدمن الشريط، وفي أقل تقدير، لربط جدائل شعورهن، فيضفي على رأس الأنثى موسيقى ملوّنة، أما دلالة الملفوظ العنواني لتعبير (نيكروفيليا بشريط ملّون) فترمي به، على ما يبدو، إلى شحن دلالة اليافطة (Plancarte) فيه بما يحيل على موجودية الأنوثة بوصفها ضحيّة للرغبة الغريزية الفادحة التي تزاحمها رغبات الذكورة الشاذة أو مقدّرات الهم الوجودي في المجتمع بأشكاله الأخرى كضياع وطن أو تفكُّك مجتمع. على أن الكون الدلالي لتعبير “نيكروفيليا” سيحيل على توظيف مصطلحات رديفة تصب في المآل المُركَّز عليه في هذا السفر الكتابي.
الوحيدات الصارخات
تكتب ابتهال للواتي “يصرخن من دون أصوات، ويتحدثّن بصمتٍ عال في غرفة مظلمة” (ص 5). وفي هذا النص نلاحظ مُجملا افتتاحيّاً خاصّاً بشؤون الأنثى، وما صراخها سوى علامة على ما يجري من مشكلات وجودية، وبالتالي حديث النسوة بصمت عال هو علامة أخرى فادحة على الذات الأنثوية المقموعة، وإلا لماذا صراخ المرأة بلا صوت؟ لماذا تكبت المرأة صوت صراخها؟ وأيّة موانع تقمع صوت الصراخ؟ ولماذا حديث الأنثى يقبع في دوائر الصمت في ظل الظلام؟ لماذا تجهش المرأة أناها في الظلام؟ ولماذا النور ممنوع على صراخها وحديثها؟ وأيُ قمع هذا الذي تعيشه المرأة لتصرخ دون صوت وتتحدّث بصمت؟
في هذا الكتاب ترى ابتهال بليبل أن رغبتها هي “الإعلان عن حقيقة هذه الوحيدة” (ص 8)، الأنثى الوحيدة التي تكبت صرختها وتتحدّث بصمت وفي غرفة مظلمة، وتتمنى المؤلِّفة أن “تلتقي بكل نساء العالم لتسمع وحدتهن، وكيف كنّ يتوجّهن إليها؟” (ص 8)، هؤلاء النسوة الإناث كلّهن يمثلن “المرأة الوحيدة” وهي تنسرح في آلام ما تسميه المؤلِّفة “دوامة المرأة الوحيدة” (ص 9)، والكتابة ليست عن الوحدة التي تعيشها المرأة؛ بل عن “المرأة الوحيدة”؛ فكثيرة هي القصص “المؤطَّرة بهذه الخرائط”، خرائط “الانصياع لما يحدث حولها؛ الرجل، الدين، الثقافة، القانون، المجتمع الذي يحدّد لها ما ستفعل وما ستشعر به” (ص 11)، لا سيما أن “جميع القواعد المقرّرة في المجتمع؛ الأخلاقية والاجتماعية والتربوية والدينية، تؤكِّد أن واجب النساء أن يعشنَ للآخرين وأن ينكرنَ أنفسهنَ إنكاراً تامًا” (ص13).
دراسة ميدانيّة
بإزاء ذلك تنسرح الكتابة عند بليبل إلى دراسة ميدانية لنماذج من النسوة العراقيّات اللواتي يلقين العذاب ويشعرن حد التخمة باليأس وغياب الأمل في عراق مزّقه الطغاة القدماء كما الجُدد لتمر على “النباشة”، ثم “خادمة البيوت”، و”المشردات” عن بيوتهن ومناطق سكناهنّ لتتوقف عند آلامهنّ ومعاناتهنّ والحيرة واليأس لديهن وفقدهنّ كل شيء في الحياة، فواحدتهن كانت تطمح بأن تكون “عراقية” لكنها يجب أن تنسى “كلمة إمرأة”، إذ إن هذا العراق هو عراق “الحداد والتخلي عن وجودهنّ” (ص 29)، لا سيما “مصيرهنّ المجهول” (ص 31).
بالانتقال إلى عنوان الكتاب لا سيما ما يتعلّق بمصطلح “نيكروفيليا”، نجد عنوان الكتاب يظهر بنصه كاملاً في الصفحة 65، لكن ابتهال تنطلق فيه من حدث مبارزة “أخيل” مع “ملكة الأمازون” التي يقتلها ويمارس الجنس معها وهي جثة! ما يعني أن ما جرى مؤصَّل في التاريخ، كما أن المؤلِّفة تنطلق من الدوافع، لا سيما “التجاهل” الذي هو “طريقة ترعيب وتلذّذ بتعذيب الآخر كما هو الحال في السادية Sadism” (ص 65). وتعود ابتهال إلى بغداد حيث “المرأة التي تسكن في مقبرة بالعاصمة”، تلك التي تطمح بأن “تشبع رغبتها في أن تكون شيئاً…، ولكن أين؟ بين الأموات وقبورهم، وكأنها تتحدّى الأحياء (ص 65).
وتكتب ابتهال نصاً شعرياً – نثريا يعبِّر عن قيمة تناص فاتن (Intertextualité) عن تلك المرأة، وتدخل في حواريّة بشأن سيمياء هاته الأنثى “المتآلفة مع القبور” (ص 68) حيث القسوة المفرِطة؛ بل قل السادية التي تتغنّى بجثث الموتى وهي ابنة لأربع وعشرين سنة. فتعود المؤلِّفة إلى طقوسيّة (Rituelle) الحدث نثراً، مرّة أخرى، لتمضي نحو تسريدٍ للشرائط الملوّنة التي ترتديها الصبايا، لكنها ابتهال بليبل تنزل إلى مستوى التحليل النفسي أو السيكولوجي بصدد ممارسة هذه الطقوسيّة في حال رغبت أنثى ما بمضاجعة الأموات أو الرجال “الجثث” كما هو حال اللواتي يبعن جسدهن مقابل قدر من المال “عاملات البورنو”، وهنا يتخذ التحليل طابعاً سوسيولوجياً يتعلّق بالدعارة المنظّمة.