تفتقت براعم التوت بعد يومين من دخولنا السليمانية، ومن السفح المطلِّ على المدينة بات قنديل (الجبل) آخرَ علائم الربيع. كانت الشمس أكثر صلفاً في السوق، والغيم نأى يابساً، خارج اسوار وحجرات الصخر. تتصل زوجة ابني بي من البصرة قائلة: يا عم، انهمر المطر منذ البارحة، وما زال على السعف كثير منه، أما الفسائل التي أقلقتنا بشأن ريِّها، أتى الصيبُ عليها، فهي في ينع يزينها، كذلك حال النهر الذي فارقته الأسبوع الماضي، الآن أبصره مائجاً.. أما الجهنمي الاحمرُ فقد تدلى ثقيلا بالماء على مهجة السياج. في النادي الذي لم تبلغ مقاعده عامها السابع عشر جلستُ، كان عبد الله بن طاهر البرزنجي قد تضاءل كثيراً، اتت القبعة السوداء على رأسه، والتحف بمدرعته الصوف، فهو يرزمها على جسده، كلما تراخت نسمة قربنا، ولم يتوان الشاعر طيّبُ بن جبار عن ذكر فضائل ومحاسن الجلوس في نادي كمولايتي على باقي الاندية والحانات. أقلقني تأخر النادل بزجاجة النبيذ، مع أنني رأيتها مركونة على طاولته، قلتُ أسوّي كنزة الوقت على المشجب، فاخذتني الطاولة بعيداً، ومن زجاج المبنى الكبير صرتُ أطلعُ الداخلين على مجلسنا، قبل تراصِّهم في أنا المقاعد، استعير من كاظم الاحمدي عنوان كتابه (تراصُّ الانا) ويدي لا تني تمسح زبد البيرة عن الكاس. يقول النادل بانَّ الرغبة بالسكر لا يشينها الجمعُ بين اللونين، فاذعنت.
دهاقنة الطبقة الاولى وبعضٌ من الميسورين الجدد يدخلون من باب يقودهم الى الحديقة، هم أنيقون، تضوع النعمة من ابتساماتهم، نحن لا ندخل من باب واحد، لكنَّ الليل في السليمانية مختلف عنه في بغداد والبصرة، فالجبل الذي أثلج قبل شهر مازال عصياً على الشمس، والريح التي تهبُّ ثقيلةً تهبُّ لتلتحف به، قبل تحققها من وجوهنا. يرتدي الكرد بذلاتٍ افرنجيّة، حين يكونون في النادي، وفي السوق يبدأ استعراض الألوان، الأحمر سيدٌ، والبنفسجيُّ وصيفٌ وخدنُ، المرأة تأتي النادي أيضاً. تتخذُ الاسرُ التي تجد في معاشاتها فضلةً من الطاولات النائية مجلساً، ليست العصائر ما يشربن حسب، الجعةُ بماركاتها الالمانية والهولندية والتركية ايضاً. يقول كاك عبد الله طاهر، الذي ترجم الى العربية الكثير من إشعار الكرد: إنَّ الليل الذي يتداكك على الشبابيك مازال يقودنا والنساء الى الحانات القريبة.
وفي الحانة المأخوذة من بهو الفندق بنزلة سرجنار، أضاءت الصبيَّةُ الصغيرةُ، المرقصَ بواحد من قرطيها، كان مصباح النيون عاطلاً في اليسار، قلبي أيضاً تعطل هناك، حيث لا أحد يأخذ بأنفاس السكسفون عنها، ينوء صاحبُه، ذو الشعر الجعِد بالنغم، هارباً من حيرته الى أعين الجالسين، الرجل من الأدباء لا يكلف نفسه، فيصفقُّ بكفين باردتين، ظلَّ السكسفون يأخذ الليل الى المقاعد، كلما دخل الحانة زبون جديد، والصبيَّةُ الصغيرة، ما تزال بلغة المستعمرِ تباعد بين الغربة وقاعدتها. انشغل بكأس النبيذ، فأرى دمغته في ابيضاض الزجاج، ومن شرفة لا تطلُّ أصيح بعنز الوجد: لا تصعدي جبل النهايات، فما في الطريق ما يكفي من المريدين. يقول باحث في المؤتمر بأنَّ مولانا عثمان كتب بقراطيسه كثيراً عن حِليّة النبيذ بأكؤسِ الجوز. كان خيال الشجرة قد بلغ عتبة المرقص ويزيد. الفتى ذو الكنزة القطن بآلته اللاصفة بالذهب يراقصُ فتاه في الفسحة الضيِّقة، حيث نجلسُ، هي تبدأ بالحجاز المدخول بالعجم، وهو ينتهي بالصَّبا المنتزع من الشوق، ومن خصلة بيضاء في شعرها يدخل الفجر. قلتُ للمتحدث في الأقطاب والمريدين وسط القاعة أمس، إنَّ الشيخ النقشبندي عثمان، الذي قدم البصرة في ثلاثينات القرن الماضي، كان قد أقام بأبي الخصيب، على النهر، لكنَّ الماء الذي يوصله بأرض الهند انحسر كثيراً، بعد ثلاثة عقود من إقامته تلك، أما ابنه، معلم الصبيان، برهانَ أقصدُ، فقد أخفى لفائف الورق الماركسية في درج أسود بالتكية، لم يعبث بها أحدٌ، يقول سعدي يوسف بانها اغلقت، وتاه المريدون في سواقي الوجد، أو عبروا النهر الى عبادان.