كثيرا ما كتبنا وانتقدنا وأدنا ضعف الحكومة بمؤسساتها الأمنية، بكل تفرعاتها، ولا شأن لنا الآن بالمؤسسات الأخرى إن كانت وزارية أو لها شأن بتسيير الحياة في المجتمع العراقي اليوم، إنما ما يهمنا هي الإجراءات الأمنية والتي هي من أخطر المهام وأشدها حساسية، لأن هيبة السلطة من هيبة بسط القانون. وكم ينتابنا الغيض والإحساس بالضيم والخجل ونحن هنا على بعد آلاف الأميال وما يجري في العراق من ممارسات أقل ما يقال عنها، بأنها تحدي واستصغار لوجود ما يسمى بسلطة الحكومة! حتى أننا نشعر بالذل والمهانة، حين يواجهنا الأصدقاء هنا في المغرب بسؤال مشروع عما يتناهى لأسماعهم وما يطّلعون عليه من أخبار بصدد تجاوزات مسلحين خارج سلطة الحكومة وتوجيهها تهديدات ومحاذير، بلا خوف ولا رادع ولا اعتبار، لا للمواطن ولا للوطن ولا لحكومته. بل الأبعد والأنكى والأخطر من ذلك، أن مسلسل القتل للناشطين، إن كانوا في ساحات الاعتصام أو المتظاهرين المطالبين بحقوقهم المشروعة أمام بنايات الحكومة المعنية بمطالباتهم أو باستخدام الأسلحة المتعدة من قبل عيّنات من البشر ممن تم توظيفهم كمشاريع للقتل بمواصفات أقل ما يقال عنها، أنهم فاقدو الأهلية والتفكير ومدفوعين بطرق وحشية وقاسية، حين يستهدفون الناس بالقتل والتصفيات وبكل صلافة، علما أن العديد من هؤلاء القتلة مشخّصون ومعروفون، بل ومعروفة الجهات التي تدفعهم لارتكاب هذه الجرائم البشعة، لانهم وببساطة مقتنعون هم ومن يدفعهم ويبارك بجرائمهم، أن هناك العديد من الاستهدافات المشخصة من قبل أجهزة السلطة والتي أودت بحياة المئات من الأبرياء من ثوار تشرين وكل من يقف معهم ويساندهم من صحفيين واعلاميين ومفكرين ومحللين، والأسماء كلها معروفة، ومع ذلك لم نلحظ ذلك الالتزام الأخلاقي والقانوني من قبل مسؤولي الأجهزة الأمنية بكشف الجناة والمتورطين والقتلة وكل من يقف من ورائهم، علما أن المجرمين يعرفهم القاصي والداني ولا حاجة للسلطة أن تشكل لجان مشبوهة النوايا والاتجاهات لتمييع القضايا وبالتالي إعطاء فرصة للقتلة إما للهروب أو التستر في مخابئهم القذرة او الاطمئنان الذي يعرفونه جيدان بأنهم بأمان من أية ملاحقات.
سبق لنا وأن كتبنا العديد من المقالات التحذيرية، بأن فلان أو علان من ضحايا تجاوز المليشيات وعصابات القتل الأرعن لم ولن يكونوا آخر الضحايا، وحذرنا من تصفيات قادمة، وها نحن اليوم نفاجأ باغتيال الثائر إيهاب الوزني، مسؤول تنسيقيات كربلاء، وسمعنا من المسؤولين الأمنيين أن القتلة سوف لن يفلتوا من العقاب، شأن التصريحات السابقة وبالتالي، ذهبت دماء الأبرياء سدىً. وتكون دماء العراقيين بهذا الرخص، يا للهول…
كنا نأمل أن تتحرك السلطات الأمنية باتجاه توفير الأجواء الآمنة لحفظ دماء الأبرياء، وبتوفير قناعة لدي الناخبين، بأن الأجواء ستكون ملائمة ووقت التصويت، ولكن يبدو أن حالات القتل وإشاعة الفوضى باتت مقصودة ولا أمل من حدوث انفراجات في هذا الملف، ليستبشر العراقيون، بأن السلطة حدّت من تغول المسلحين واستهتارهم وبقاء حياة الناس على كف عفريت.
فما الحل إذن؟ هل من المعقول توجه الناخبين لصناديق الاقتراع وفوهات أسلحة القتل موجهة لصدورهم لينتخبوا هذا دون ذاك، مع توظيف أموال شراء الذمم والأصوات،
ماذا يعني ما قرأناه اليوم، بأن فصيلا مسلحا يوجه إنذارا للحكومة بتسوية ملفات المسلحين، واعطائها مهلة ثمان وأربعين ساعة لتنفيذ الأمر، وبطريقة البلطجة وعصابات المافيات الكبيرة!
والله إنه لعار وأمر لا يصدق أن تصل الأمور الى هذا الحد من الانفلات والاستهتار وتحقير لسلطة الحكومة والتي ينبغي أن تبسط هيبتها، لان ذلك يعتبر دفاعا عن كرامة العراقيين والوطن وتاريخ البلد العريق.
يلاحظ القارئ الكريم أننا تحاشينا الكلام عن وجود دولة، وهذا الأمر يسبب لنا ايلاما، بأن العراق بما تعنيه هذه المفردة من معنى، يصعب ترجمتها أو اختزالها بسطور، يتحول بين ليلة وضحاها الى دويلة لا تحظى بالاحترام من لدن أصغر وأحقر دولة في العالم، علما أن العديد من هذه الدول النكرة كانت تتلقى الدعم الكبير من نظام البعث المنهار، وليتذكر المواطن ومن خلاله نذكّر تلك الدول ما قام به نظام المجرم صدام من ارسال طائرة محملة بملايين الدولارات لتوزيعها على دول افريقية، (لا بالبال ولا بالخاطر) بإشراف سيء الذكر نائب رئيس الجمهورية، لتتنكر تلك الدول لما عليه اليوم العراق من تراجع خطير في سمعته الدولية ودوره الذي كان مدّعما بتوزيع الأموال والهبات من خيرات العراقيين، لا بقراءات موضوعية لما كان عليه نظام البعث وممارساته الإجرامية.
طيلة سنوات التغيير وسقوط نظام البعث الفاشي، عوّل العراقيون على التغيير الحقيقي والخروج من نفق الضيم والظلم والقتل الصدامي الأرعن، فراهنوا على الوجوه الجديدة التي كانت أصلا من ضحايا النظام البائد، كما يدّعون، ليتبين العراقيون، أن كل مراهناتهم ذهبت أدرج الرياح، ليدخلوا في محنة جديدة أشد وأمضى من فواجع النظام السابق، وبعد طول انتظار تيقّن العراقيون، أن الساسة الجدد، ما هم بالبديل للنظام القمعي البعثي، فنسوا أو تناسوا ما كانوا عليه من ظلم صدامي أرعن، ليتحولوا بقدرة قادر الى بديل أسوء مما كان سابق الوضع، وهكذا تناسلت الفواجع وبشكل يومي من قتل ومطاردات واختطافات وتغييب واستهدافات خطيرة، بعد أن أشاع الساسة الجدد كل أنواع الانحدار القيمي والأخلاقي والوطني والديني، وما تيسر لديهم من أساليب خراب، وكأنهم مكلفون بتصفية الحساب مع العراقيين وبتوجيه ومباركة ودعم الأجنبي.
تتواصل سلسلة الاغتيالات للنشطاء والثوار الذين عبّروا وبشكل قاطع رفضهم للوضع السياسي الحالي برجالاته ومسؤوليه ومسلحيه وناهبي خيرات البلد وطائفييه وسواها من الممارسات التي إذا ما أتيح لأعداء العراق الأكثر عدوانية لهذا البلد لما فعلوا مثلما فعل ساسة العراق الجدد.
نؤكد للمرة الألف بأن العراق يمر بمنزلق خطير…خطير جدا، بسبب وجود قتلة ومجرمين وسفاكي دماء من عديمي الضمائر والقيم، دون أن نلحظ أي تحرك وطني لانتشال البلاد من فوضى السلاح المنفلت ومحاسبة كل من سبب وما زال في تدمير بنية العراق الاجتماعية والاقتصادية والحضارية والثقافية.
ونناشد من له علاقة بالشأن العراقي، خصوصا ثوار تشرين الأشاوس وكل الخيرين، وما تبقّى منهم، باتخاذ الموقف الحاسم والحازم لإيقاف عجلة الخراب التي ودون ريب ستحرق الأخضر واليابس.
ولا مجال مجرد الكلام عن التحضير للانتخابات وفوهات أسلحة القتلة موجهة لمن تسول له نفسه الخروج عن الخطوط الحمراء المرسومة من قبلهم وتوظيف المال الحرام وكل وسائل الخبث الشيطاني.
فأية انتخابات يعول عليها العراقيون وهم في وسط هذه المعمعة وسطوة السلاح المنفلت وغير المنفلت.
نساند وبقوة مقاطعة الانتخابات من لدن القوى الحية والخيرة، ما لم يتم اتخاذ الإجراءات الرادعة لإيقاف مهازل نشر السلاح ومحاسبة القائمين على الفوضى، وقبل كل شيء تنظيف المشهد السياسي برمته من الفاسدين والطائفيين وأذرع القتل والمباركين له وتصفية الأجواء والتدخل الفاعل والحاسم من لدن المنظمات الدولية ذات الثقل والتجارب ومراقبة كل من تسول له نفسه بتوجيه البوصلة عن مسارها الصحيح.
ولنا عودة قادمة للكلام عن هذا الوباء المستشري والخبيث