ما إن نصل إلى منعطف سياسي في بلادنا الغارقة في الفوضى، حتى تخرج علينا بعض البيانات من أحزاب وتجمعات سياسية تدعو فيها السلطة إلى التحلي بالوطنية لمعالجة قضايا تهم الوطن والمواطن. وغالبا ما تكون هذه البيانات أو المناشدات من قبل أحزاب وتنظيمات ليس لها أي دور في رسم سياسة البلد أو ملفاته الاقتصادية والاجتماعية وما تتفرع عنها من ملفّات بقيت دون حلول منذ الاحتلال الأميركي للعراق إلى اليوم، هذا إن لم تكن هذه المشاكل قد استنسخت نفسها وتناسلت مرّات ومرّات لتتحول إلى أزمات مستدامة. وعندما نقول بعدم وجود دور لهذه الأحزاب فإننا نعني به الدور التنفيذي والتشريعي. وهذان الدوران ومنذ بداية التجربة “الديمقراطية” وإلى اليوم، هما حكر على مثلث الفساد الذي يتحكم في سياسة واقتصاد البلاد، وعليه فإنّ أي بيان أو مناشدة يصدران من قوى “المعارضة”، لمعالجة معضلة سياسية أو اقتصادية من قبل مثلث السلطة الغارقة بالفساد، يعتبران حلم إبليس بالجنة كما يقال.
لقد حصلت بعض أطراف تحالف قيم المدني على بعض المقاعد (غير مؤثرّة) في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، وفق برنامج يعتمد الوطنية كنهج ضد نظام المحاصصة الطائفية القومية. وعلى الرغم من عدم تأثير هذه المقاعد في رسم سياسة المحافظات التي حصلت على ثقة الناخبين فيها، إلّا أنّها كانت الخطوة الأولى في مسيرة المليون ميل للتغيير المنشود في تحسين وضع البلاد الكارثي. لكن رياح تحالف قيم لم تأتِ بما تشتهيه سفينة شعبنا ووطننا وهما يبحران في بحر ظلمات المحاصصة دون أشرعة.
في التاسع من الشهر الجاري أصدرت قيادة التحالف بيانا أنهت فيه عضوية حزب تنوير ممثلا في أعضاء كتلة وطن النيابية، لأنّهم لم يلتزموا بمبادئ التحالف العابر للطائفية، وانخرطوا وفق البيان في “تفاهمات سياسية بعيدة عن برنامج التحالف المتفق عليه”.إنّ تفسير انخراط حزب تنوير وكتلته النيابية في تفاهمات سياسية بعيدة عن برنامج تحالف قيم ومن خلال تجارب سابقة، يعني أنّ قوى المحاصصة الفاسدة اشترتهم بالمال والمناصب. وهذه التجربة حدثت بعد الانتخابات التي جرت بعد انتفاضة أكتوبر، حيث نجحت قوى الفساد وقتها أيضا في شراء ناشطين ونواب برلمان محسوبين على الانتفاضة، وستحدث لاحقا أيضا. ليس لأن قوى الفساد قد رسّخت مفهوم البازار في العملية السياسية فقط، بل لغياب الوطنية عند قطاعات واسعة من جماهير شعبنا بعد أن تكتّلت طائفيا وقوميا وعشائريا ومناطقيا، والوطنية اليوم نراها لمدة تسعين دقيقة فقط حينما يلعب المنتخب العراقي مباراة دولية.
على الرغم من عدم وطنية بعض المنضوين في تحالف قيم المدني وانتقالهم إلى المستنقع الطائفي، وإصدار التحالف بيانا أنهى فيه عضويتهم، إلّا أنه عاد بعد أيّام ليمنح صفة الوطنية لهؤلاء وبينهم من اشتراهم في بازار الخضراء التجاري. فعلى خلفية إقرار الموازنة وتوزيع ثروات البلاد بشكل غير عادل، أصدر التحالف بيانا يدعو فيه “القوى الوطنية الفاعلة، إلى تشكيل لجان رقابة شعبية لحماية المال العام”، ومنع “الاقتصاديات السياسية من نهب تلك الأموال، وضمان إنفاقها في مكانها الصحيح”!
من هي القوى الوطنية الفاعلة التي ستستجيب لهذا المطلب المُلِحّ والمهم؟
إن كان البيان يعني به ما تبقّى من أحزاب وتنظيمات وشخصيات تحالف قيم وهي غير فاعلة سياسيا وشعبيا، فأنّ تأثيرهم لحماية المال العام من النهب والسرقة والفساد هو كما الذي يريد حرث البحر، لأن أسماك القرش وقتها ستلتهم الأموال كما فعلت طيلة فترة ما بعد الاحتلال لليوم، والذين يريدون حرث البحر معها. أمّا إذا كانت تعني بهم آخرين فيا حبذّا لو يشير لنا التحالف في بيان جديد أسماء هذه القوى الوطنية، اللهم إلا إذا كانت أحزاب مثلث الفساد السلطوي بأذرعه السياسية والاقتصادية والميليشياوية والعشائرية والدينية الطائفية (ومن انظمّ إليهم مؤخرا من تحالف قِيَمْ وقبلهم بعض التشرينيين) التي باعت وتبيع الوطن وثرواته منذ الاحتلال الذي جاء بهم إلى السلطة وإلى اليوم وطنية وهم من يناشدهم البيان. وحينها وقبل صدور البيان الجديد نستطيع القول و بالفم المليان’ كما يقول إخواننا المصريون “إن جانت مناشدة ما تسمى القوى الوطنية مثل ذيج (اللواتي قبلها).. لا خوش مركَه وخوش ديج”.
لنعترف أننا نمر بأزمة وطنية حادّة، وهذه الأزمة هي من تدفع الجماهير للتحرك نحو مشروع نهج المحاصصة المدمر وأحزابه على الرغم من فشلهم على مختلف الأصعدة. وبغياب مفهوم الوطنية يبقى السؤال هو: هل الجماهير المكتوية بنار الفقر والبطالة والجهل والتخلف والباحثة عن فتات ما تجود به مزبلة الخضراء هي من تسيطر على أحزاب السلطة، أم العكس؟
مهما كانت الإجابة وفي كلتا الحالتين، فإنّ الوطن اليوم بيت غريب بالنسبة إلى المواطن العراقي الفاقد لكرامته وهو يعاني من أزمات الكهرباء والماء والبطالة وغيرها، والوطنية لا لون ولا طعم ولا رائحة لها عند الأحزاب “الوطنية” المهيمنة على المشهد السياسي. إنّ من يمتلكون السلطة اليوم يفتقرون إلى المسؤولية الوطنية والأخلاقية وهما اللبنة الأولى لبناء دولة، وفي الحقيقة فليس بين من يتصدرون المشهد السياسي اليوم رجال دولة حقيقيون، بل بيادق تتحرك بإمرة عواصم دولية وإقليمية وعلى الضد من مصالح شعبنا ووطننا علاوة على لصوصيتهم وفسادهم. وعليه فإنّ صفة الوطنية واسعة على أمثالهم كما كانت واسعة على الذين من قبلهم. فالقوى ذات العمق العروبي وعواصمها أو تلك ذات العمق الطائفي وعاصمته وتلك القومية التي لا تعمل من أجل جماهيرها ناهيك عن مصالح جماهير البلاد بأكملها وغير المؤمنة بالوطن، لا تعرف معنى الوطنية وليس من حقنا إضفاء صفة الوطنية عليها، لأننا حينها نضحك على أنفسنا قبل ضحكنا على الجماهير.
لنعد تجربة انتفاضة أكتوبر في كل مدن وقرى وقصبات العراق من جديد، وحينها فقط وبعد نجاح الانتفاضة ستفرض جماهير شعبنا والقوى الوطنية الحقّة مفهوم الوطن والوطنية كممارسة سياسية، على خلاف منظومة المحاصصة والفساد غير الوطنية بالمرّة. ووقتها لن نرى أحزاب مثلث الفساد الحاكمة اليوم إلّا في مزبلة شعبنا الذي سيطوي هذه المرحلة السوداء من تاريخه لينطلق كما الشعوب التواقّة للحرية والتقدم، في بناء وطن يتّسع للجميع، وطن توزّع ثرواته على أبناء شعبه بعدالة ومساواة.