نستشف من الآيبين الى العراق من بلدان كانوا قد هاجروا اليها طوع إرادتهم، ما يغني عن التعليق ويختزل التعليل، بأن أرض الوطن هي الأم الرؤوم التي لاغنى عن أحضانها، فما من شاعر إلا وتغنى بالوطن وحبه والولاء له، وتغزل بكل ما يمت بصلة الى مكوناته، وكم سطر التاريخ لنا قصصا بذلك حتى من جار عليه وطنه، وعانى من العيش فيه كما قال شاعرنا:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وقومي وإن شحوا علي كرام
ولطالما عاد أولئك المسافرون رغم عيشهم الرغيد في بلاد المهجر، ليعزفوا على أوتار أرضهم التي فارقوها في وقت ما ألحانا دافئة تستكن اليها نفوسهم. وفي عراقنا بلغت أعداد المهاجرين في السنوات الأخيرة رقما مهولا، وملأوا مشارق الأرض ومغاربها بحثا عن الأمن والأمان والرزق الميسور والعيش الهني، وكان حريا ببلدهم أن يوفر لهم كل هذه الحقوق. ورغم هذا كله بقي الرجوع اليه غايتهم وهدفهم ولاءً وانتماءً له، ومن المؤكد ان الولاء للوطن ليس إحساسا قسريا او عبئا مفروضا على النزيه والـ (شريف)، بل هو سليقة وطبيعة تسمو على كل الطبائع والمشاعر، وتتربع فوق كل الاعتبارات من حيث يشعر المواطن الصدوق ولايشعر. ولنا في صفحات التاريخ ومايسجله من أحداث خير واعظ عن القيمة العظمى للولاء والانتماء للوطن، من تلك الأحداث مايروى عن القائد الفرنسي نابليون، عندما شن حربه على ألبانيا، إذ كان هناك ضابط ألباني يتسلل بين الفينة والأخرى الى نابليون بونابرت قائد الجيش الفرنسي، يفشي له اسرار جيشه وتحركاته، وكان نابليون يرمي لهذا الضابط -بعد أن يستمع الى مايفيده من أسرار عدوه- صرة نقود على الأرض ثمنا لبوحه بأسرار جيشه. ذات يوم وكعادته بعد ان سرّب الضابط لنابليون معلومات مهمة، همّ نابليون برمي صرة النقود له، فما كان من الضابط إلا ان قال:
“ياسيادة الجنرال، ليس المال وحده غايتي، فأنا أريد أن أحظى بمصافحة نابليون بونابرت”.. فرد عليه نابليون:
“أما النقود فإني أعطيك إياها كونك تنقل لي أسرار جيشك، وأما يدي هذه فلا أصافح بها من يخون وطنه”..! وقال مقولته: “مثل الخائن لوطنه كمثل السارق من مال أبيه ليطعم اللصوص فلا أبوه يسامحه ولا اللصوص تشكره”.
من هذا الموقف تتكشف لنا خسة من لا يكنّ لبلده الولاء كل الولاء.. والذي ذكرني بنابليون واحتقاره الضابط الألباني، هو ما يحدث في ساحة العراق على يد ساسة وقادة، اتخذ بعضهم من العراق -وهم عراقيون- سوقا لتجارة، ووسيلة لربح، وطريقا لمآرب أخرى، نأوا بها عن المواطنة والولاء والانتماء للوطن، فهم أناس لا أظنهم يختلفون عن ذاك الضابط الخائن، لاسيما بعد ان سلمهم العراقي الجمل بما حمل، وحكّمهم بامره متأملا بهم الفرج لسني الحرمان التي لحقت به، فحق عليهم بيت الشعر القائل:
إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة
فإنك قد أسندتها شر مسند
وباستطلاع لماجرى في العراق خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، يتبين لنا كم هو بليغ تأثير خصلة خيانة الوطن، لاسيما حين تكون صفة لصيقة بالشخصيات القيادية في مفاصل البلد الحساسة، والشواهد على هذا كثيرة، ليس أولها ماحدث في محافظات الموصل والأنبار قبل أربع سنوات، كما أن آخرها لا يقف عند حوادث التفجيرات التي تقع بين الفينة والأخرى كناتج عن خيانات وتواطؤات رخيصة، مخلفة خسائر عزيزة غالية كبيرة.
فهل يعلم الخائنون حجم الأضرار التي يتركها عدم ولائهم للوطن؟ وهل يعون ويدركون عظم الآثار والعواقب التي تترتب على العراقيين بكل شرائحهم، وعلى البلد بكل جوانبه، من جراء ضعف انتمائهم له؟ وهل يعرفون أن قدرهم عند المواطن كقدر ذاك الضابط الألباني عند نابليون؟.