بين السنة والثانية، ومثلُ أيِّ سائح، أجيء بغداد، أدخلها مثقلا بوجد طاغ، وأوهام لا تحد، أقلها عشقي لدجلة، وتلمس خطى البغادة الغابرين. تلقي سيارة الأوباما بي عند نهاية الجسر الطويل، أنا لا أتفلت في بغداد، أنا اتنفسُ حسب، فيحملني سائق آخرُ إلى فندق تطلُّ واجهتُه على الشارع، ولا تطل أحياناً. وكالعادة، سيسألني السائق عن وجهتي، التي قدمت منها، وأجيب: من البصرة. فيطري أهلها، يقول: طيّبون وكرماء، فأشكره، فيما تزوغ عيني، تبحث في الساحات عن يافطة ما عادت تدل، وعن وهم لم أجعله في قائمة أوهامي الطويلة. كان عبد الأمير الحصيري- الشاعرُ النجفيُّ- لا يرى بغدادَ المدورة مدينة لملِك ولا جمهورية لرئيس، هي عباسيّة في عين قلبه، توقف الزمان عندها وانتهى، وما الشارع الرشيد والمستنصرية المدرسة وابو نؤاس والمنصور وراغبة خاتون والمأمون وغير ذلك من الشوارع والضواحي إلا ما كانت عليه، وكان أهلها قبل الف عام.
لذا أدمن التَّيهَ والضَّلال في أزقّتها، يبحث في حاراتها عمّن يدلّه عليه، ويأخذ بيده إلى الواقفين على حاناتها، يتبضع خطوة أخيرةً من المشاة السكارى المتسكعين في دروبها. كذلك أكون، وما أنا بحديث عهد فيها، فقد دخلتها قبل نصف قرن، أخذني بصفّارته قطارُ السادسة عصراً، من محطته في المعقل، وانزلني في السابعة من صباح اليوم الثاني، بمحطتها العالمية، كان القاشانُ في سقفها ما طالعني آنئذ، وحين تركت حقيبتي في فندقٍ بالباب الشرقيِّ حملتني قدماي إلى مقهى، بأرائك من خشب عتيق، يميل عليه مسجد، ويهرسه المارةُ بأنظارهم، هناك جلستُ، استحسنتُ مِقعداً، فكان وجهي يطالعُ وعبْرَ الزجاج المتعجّلينَ.
هناك نصفُ قرن آخر بين زيارتي الأولى لدائرة الشؤون الثقافية، التي بسبع أبكار، ثم بحيِّ تونس وزيارتي الأخيرة قبل نهاية العام الحالي. لا أقول بأنَّ الدار تغيّرت، لكنَّ خمسين سنةً كانت كافية لكي تتغيَّر وجوهٌ كثيرة، فلا أتبين في أروقتها وسواقيها شتلاتَ الورد الأحمر، واسيجةَ الآس، والنساءَ الجميلات، تأخذهن المماشي إلى الغرفات، ويأتين منها بلا اسئلة عن النَّهار.. وحين أخذتني قدماي إلى ما تظلله قبابُها كانت السقوف قد شاخت، ومخارجُ المكاتب التي كان الوردُ يضيِّقُ بها على الماشين حزينةً، ولم أسمع الهمسَ المعهودَ عند عتباتها. هناك من يستعصي عليه تزويل الذكرى في هاتف الزمن، من لا يرى في الابيض القطني أجنحةً للنوارس .. أشهدُ اللهَ أنَّ العشبَ في الحديقة كان رطباً، وأقواسَ المبنى نحيلةٌ تصارع البِلى، ومن فسحة زرقاء في السماء يتنفسُ الذاهبون والآيبون عبقَ ماضٍ، لم يعد، فيما يحاول أحدُهم، مع من يحاولون استعادةَ مباهج التركواز أعلى القباب.
أنا سائحٌ في بغداد إذنْ، دخلتُ المتحفَ مع الداخلين، وتركت خطاي عريضةً، على العشبة بابي نؤاس، صحبة الشجر المطرمح، ورائحة السمك المسقوف، ومثل كل الغادين بلا أملٍ للسرور ذهبتُ إلى الشارع المتنبي، أبحث في أطنان الورق عن خليفةٍ لا أحبُّه، وعن شهرزاد همَّ بقتلها أميرٌ غاضب، وعن شاعرٍ يتخذ من النهر مرقاةً لعظمته، فكانت الناس تصطك بالناس، وباعة المباهج يحملون بعضهم إلى بعضهم، فيما النسوةُ الجميلات، بشَعْرهنَّ المنسرح والطويل يكتبن القصيدة التي أردت. وفي بار هوازن، الذي يختبئ بأحد أزقّةِ البتاويين جلستُ ليلةً، لا لأكمل القصيدة، حيث أبتدأت، إنّما لأحلمَ، بعيداً عن البنادق، التي خلّفتها هناك، في الجنوب الرطب، حيث كنتُ وأتيتُ، كانَ صديقي الطبيبُ الشاعرُ يهبني ابتسامتَه باذخةً، وقد أنزلني منزلي الذي أحبُّ، وأعطاني من أسارير قلبه ما يثقل عنقي به. الصبيّاتُ الجميلاتُ في البار، بسراويلهن الجينز أعدنَّ ما تساقط من تركواز الروح، وما تراجع بالكياسة والجبن في الجسد، وحين صرتُ إلى الفندق ثانيةً، قبيل فجر ليلتي الأخيرة، هناك، حين حملتني سيارة الأوباما إلى البصرة وجدتني كاتباً : لست بعيداً عن دكّانة بائع الحلوى، أنا في نهر خوز، التي على الجادَّة الآن، تقودني الأرضُ إلى البصرة، كان أخي قد كلّفني بنقل جثمانه إلى الزبير، لكنَّ سيّارة الحاج عبد الدائم تعثرت بالماء، خالطه طينٌ وقصبٌ كثير، فخطر لي أن افتح ثقباً في الحائط، الذي يحجبني عن الشمس، أطلُّ منه على كلِّ ذاهب وآيب من النخل، أنا ارتدي قميصاً من قطنٍ تراجعت ألوانه في الشمس، وسروالاً ابيض لا يجدني أحدٌ فيه قرب البيت. أكونه كلما صرت إلى الفجر. المصلّون يرونني خارجا من المسجد، لكنني ما دخلت بعدْ. تمسَّك اخي بمخاضة القصب والحلفاء التي في المعامر، على النَّهر الكبير ذات يوم ، لكنَّ الرصاص لم يُمهله، فأتاه من جهات الماء الأربع، كانت البنادق تقصده أيضاً، والنخل يترصده، والخنازير تنوشه، أما هو فقد ظلَّ واقفاً، مصغيا للسلاحف الغُبر وهي تعبر الطريق، وللسفرجل وهو يتطرمح في السماء، وللمغيب وهو يصطبغ بالاحمر والازرق التركواز، وإلى يده وهي تومئ للفواخت والسنادين. كان أحدُهم قد إِئتمنه على ابتسامة ابنته فصَدَعَ بالأمر.