مقارنة مع ما حصل في نيسان – أبريل الماضي، عندما اغتالت إسرائيل عددا من كبار ضباط “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني في أثناء اجتماع في القنصلية الإيرانيّة في دمشق، طرأ تغيير كبير وإن تدريجي، على الوضع في المنطقة كلّها. في أساس هذا التغيير تحوّل إسرائيل، في ضوء مرور ما يزيد على عشرة أشهر على حرب غزّة، إلى دولة أكثر عدوانيّة وشراسة في غياب من يستطيع ردعها في واشنطن على وجه التحديد. رفعت الدولة العبريّة شعار أن المطلوب الاقتصاص من إيران نفسها بصفة كونها “رأس الأفعى”، بعدما كانت تكتفي بتوجيه ضربات إلى أدواتها وأذرعها في المنطقة.
حصل التغيير في ضوء عجز إسرائيل عن الانتهاء من حرب غزّة ومن “حماس”. تخلصت من غزة بعدما اكتشفت أنّه لن يكون في استطاعتها التخلّص من “حماس”. باتت عملية إعادة إعمار غزّة تحتاج إلى عشر سنوات، هذا إذا وجد من يريد إعادة إعمار القطاع في يوم من الأيّام. ما نفع أن تزول غزّة من الوجود وأن تتباهى “حماس” بأنّها ما زالت حيّة ترزق؟ هل بقاء “حماس” أهمّ من بقاء غزّة التي يعلن رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة محمود عبّاس (أبومازن) أنّه يريد الانتقال إليها… من باب المزايدات ورفع العتب ليس إلّا؟
لا ينفع حاليا الكلام عن ردّ إيراني، سيحصل يوما، على اغتيال إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لـ“حماس” في طهران أواخر تموز – يوليو الماضي. مثل هذا الاغتيال الذي ترافق مع اغتيال فؤاد شكر، القائد الكبير في “حزب الله” في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، لا يمكن أن يمرّ من دون ردّ إيراني. لكن السؤال هل تستطيع “الجمهوريّة الإسلاميّة” ترتيب ردّ مشابه على ذلك الذي قامت به بعد اغتيال قادة “فيلق القدس” في داخل قنصليتها في دمشق؟ حصل تنسيق في شأن الردّ مع إسرائيل والولايات المتحدة. استطاعت إيران القول إنّها ردت واستطاعت إسرائيل، في الوقت ذاته، القول إن الردّ الإيراني لم يؤد إلى أي أذى، بل كشف امتلاكها لأسلحة تستطيع منع المسيرات والصواريخ التي تطلق من إيران من تحقيق أهدافها.
الأهمّ من ذلك كلّه أنّ لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” حساباتها الدقيقة التي تأخذ في الاعتبار التحولات التي طرأت على الموقف الإسرائيلي في ضوء حرب غزّة من جهة وفتح “حزب الله” جبهة لبنان من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك لا يمكن تجاهل أنّ إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة والدول الغربيّة، باتت تدرك معنى وجود الحوثيين في اليمن وتهديدهم الملاحة الدوليّة في البحر الأحمر… وإطلاق مسيرات وصلت إحداها إلى تل أبيب.
هناك منطقة ما قبل حرب غزّة، التي بدأت بهجوم “طوفان الأقصى” الذي شنته “حماس” انطلاقا من القطاع في السابع من تشرين الأول – أكتوبر الماضي… هناك منطقة ما بعد حرب غزّة. كشفت تلك الحرب، التي أدت إلى تهديد وجودي لإسرائيل التي تحولت إلى وحش حقيقي بكلّ ما لكلمة وحش من معنى، أنّ لا حدود لما يمكن أن تقوم به إسرائيل التي لم تكتف بتدمير غزّة، بل أقامت ميني – غزّة في جنوب لبنان. يتكشف كلّ يوم حجم الدمار الذي لحق بقرى وبلدات جنوبيّة قريبة من خط الحدود مع إسرائيل، كما لو أنّه مكتوب على أهل الجنوب، منذ توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969 دفع ثمن حروب لا علاقة لهم بها خاضها الفلسطينيون في مرحلة معيّنة وتخوضها إيران حاليا.
تأخر الرد الإيراني على إسرائيل أم لم يتأخر، لا مفرّ من الأخذ في الحسبان أن إيران لم تعد مستعدة لخوض حرب مباشرة مع إسرائيل. أظهرت كل تجارب الماضي القريب أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” تدفع ثمن كلّ الحروب، التي تخوضها بالواسطة، من كيس غيرها. تخوض هذه الحروب على حساب غيرها ومن حساب غيرها. ثمّة من تنبّه إلى ذلك وثمّة من يرفض التنبّه إليه، خصوصا أنّ حربا مباشرة بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” وإسرائيل ستكون مكلفة. الأكيد أنّها ستكون مكلفة لإسرائيل التي لن تستطيع توفير حماية كاملة لمنشآتها في حال قرّر “حزب الله” مهاجمتها انطلاقا من الأراضي اللبنانية، لكنّ الأكيد أيضا أن إسرائيل قادرة على إلحاق أضرار كبيرة بالبنية التحتية الإيرانية وبكل الموانئ ومصافي النفط والمنشآت المرتبطة باستخراج النفط والغاز. يتعلّق الأمر في نهاية المطاف بحماية النظام الإيراني الذي أقامه آية الله الخميني في العام 1979، في ضوء سقوط الشاه.
شيئا فشيئا تقترب ساعة الحقيقة. مَن غير “حزب الله” وأدوات إيران في اليمن على استعداد لخوض حرب دفاعا عن النظام في إيران؟ هناك ميليشيات مذهبيّة عراقيّة مستعدة أيضا لذلك، لكن اللافت أن الحكومة العراقيّة برئاسة محمد شيّاع السوداني بدأت تعيد النظر في حساباتها بعض الشيء. حصل ذلك في ضوء تهديد إسرائيلي بأن ما حل بميناء الحديدة اليمني الذي تلقّى ضربة قويّة يمكن أن يحلّ بميناء البصرة.
لا يمكن تجاهل أنّ النظام السوري بدأ يمارس لعبة الحذر في التعاطي مع الردّ الإيراني المحتمل بعدما شعر أن إسرائيل، التي حمته دائما، صارت مستعدة لاستهداف أماكن يرتادها بشّار الأسد شخصيا.
تغيّرت إسرائيل ولم تتغيّر الحسابات الإيرانيّة القائمة. لا تزال هذه الحسابات الإيرانيّة تستند إلى خوض حروب على حساب الغير، من دول وشعوب، من جهة واستغلال كلّ فرصة متاحة، بما في ذلك حرب غزّة، لإثبات أن لا مجال لتجاوز دور “الجمهوريّة الإسلاميّة” في المنطقة من جهة أخرى.تردّ إيران أو لا تردّ، السؤال من سينفذ طلبها الردّ على إسرائيل من دون جعلها في مواجهة مباشرة معها؟ الجواب أن الطرف الوحيد الذي يمكن أن يقدم على مثل هذه المغامرة هو، للأسف الشديد، “حزب الله” في لبنان الذي أدخل بلدا بكامله في لعبة لا أفق سياسيا لها، تماما مثلما أنّه لم يكن من أفق لـ“طوفان الأقصى”… باستثناء القضاء على غزّة!