عام 2014 أصدر المرجع الشيعي الأعلى في النجف فتواه في الجهاد الكفائي. وكانت فتوى ملغومة، ذلك لأنها جاءت أولا لتخفيف الضغط عن حكومة نوري المالكي وعدم معالجة الفساد الذي أدى إلى هزيمة الجيش العراقي في الموصل في معركة لم تقع، وثانيا لشرعنة السلاح غير القانوني من خلال جمع الميليشيات في مؤسسة عسكرية رسمية مستقلة أطلق عليها “الحشد الشعبي”، لتكون واجهة للهيمنة الإيرانية كونها تمثل يد الحرس الثوري الإيراني في العراق.
وإذا كان تحرير الموصل قد تم تأجيله ثلاث سنوات لأسباب خفية فإن النشاط الجوي الأميركي كان له دور حاسم في ذلك التحرير إضافة إلى ما قامت به القوات العسكرية العراقية في مجال القتال الأرضي. أما الحشد الشعبي فقد لعب أفراده دورا ضارا حين مارسوا شتى صنوف القتل والقهر والتعذيب والإذلال والاعتقال بحق سكان المناطق المحررة حين تم وضعهم في سلة واحدة، من غير التفريق بين مَن هو داعشي ومَن لم يكن كذلك.
فجأة فقد ثلث سكان العراق مواطنتهم وصاروا بمثابة أعداء غير مشمولين برعاية الدولة التي ينتسبون إليها. هذا إذا تمكنوا من العودة إلى مدنهم المحطمة، فالكثير منهم ظلوا نازحين في الخيام لسنوات لأن الحشد الشعبي بنى معسكراته في تلك المدن. وبالرغم من مضي أكثر من خمس سنوات على تلك الفاجعة لا تزال ميليشيات الحشد الشعبي ممسكة بعدد من المدن المحاذية لإيران من غير أن يجرؤ مسؤول، حتى لو كان رئيس الوزراء، على الاقتراب منها أو الطلب من الميليشيات مغادرتها من أجل عودة سكانها إليها.
وكلما شعرت الأحزاب الموالية لإيران والتي ترتبط ميليشيات ببعضها بأنها عاجزة عن تنفيذ المطالب الشعبية يظهر تنظيم داعش لينفذ عملياته في القتل المجاني وبالأخص في المناطق التي تقع تحت السيطرة الكلية أو الجزئية لتلك الميليشيات. كما لو أن العدوين موجودان في المكان نفسه. وإذا ما عرفنا أن ذلك التنظيم لا يقتل إلا أبناء الطائفة السنية فإن الحكومة التي تسيطر عليها الأحزاب الشيعية لا تُظهر كثير اكتراث لما يحدث في المناطق ذات الأغلبية السنية. لذلك فإنها كانت تكتفي بإعلان الخبر بطريقة محايدة من غير أن يُسمح للقوات المسلحة في أداء مهماتها، ذلك لأنها هي الأخرى ممنوعة من دخول تلك المناطق.
قد لا تكون هناك عمليات لداعش، ولكن هناك قتلى لا يمكن استنطاقهم لأنهم موتى كما أن شهود العيان لا يؤخذ بشهاداتهم فالحكومة لا تفتح تحقيقا في الجرائم. هناك معارك لا أحد في إمكانه أن يؤكد وقوعها. تدير إيران لعبة على حدودها، القصد منها إخافة العراقيين وتذكيرهم بأن حكومتهم لا تزال ضعيفة وهي لن تكون قادرة على حمايتهم.
لقد رفع قبل سنوات شعار “الحشد الشعبي المقدس” وانتمى الحشد إلى مجموعة الخطوط الحمراء التي يجب عدم تجاوزها أو التطاول عليها. وهو ما يعني أن القتلة محميون بجدار من الصمت، كان الخوف من إرهابيي داعش قد منحه الكثير من الصلابة. لذلك كان بقاء تنظيم داعش ضروريا من أجل أن يظل الحشد الشعبي مصانا بعيدا عن أي مساءلة أو مطالبة بإلغائه أو على الأقل ضمه بشكل حقيقي لا صوري إلى القوات المسلحة العراقية لكي تتمكن القيادة العامة للقوات المسلحة من التحكم بحركته ونوع الأسلحة التي يستعملها وطبيعة الأهداف التي يسعى لتحقيقها من خلال عملياته القتالية.
كان قاسم سليماني الرئيس السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني يشرف بشكل مباشر على الميليشيات التي يتكون منها الحشد الشعبي. وهو الذي أشرف بنفسه على إدارة الصراع الجانبي ما بين الحشد وبين الجماعات السنية المتمردة غرب العراق والتي تم إلحاقها بالإرهاب من خلال التسمية المضللة “داعش”، لا لشيء إلا لأنها كانت تطالب بالحقوق المدنية لسكان تلك المناطق والتي تم انتزاعها والقفز عليها من قبل حكومة نوري المالكي.كان تنظيم داعش هو فزاعة الخوف التي استغلتها إيران لتنقل قواتها متمثلة بالحشد من شرق البلاد إلى غربها والفتك بأعدائها التقليديين الذين تعتبرهم مسؤولين عن حرب الثمانينات التي استمرت ثماني سنوات بسبب إصرار الخميني على عدم إيقافها.لا تزال إيران مصرة على أن حربها مع العراق لم تنته بعد. وهي بوجود داعش الافتراضي لا تحتاج إلا إلى صمت الحكومة العراقية الضعيفة لكي يستمر حشدها في الفتك بالسكان المدنيين.