إيران والأكراد.. كم يحتاج المرء من العمى لكي يعرف أنه أعمى؟
آخر تحديث:
بقلم: علي الصراف
الاحتجاجات في إيران إذا كانت قد بدأت من المناطق الكردية، فإنها لم تمتد إلى كل محافظات إيران إلا لكي تقول ما لا يريد نظام الولي الفقيه أن يسمعه. وهو أنها احتجاجاتٌ على نظام مظالم شديدة وفساد مديد. وهي من السعة بحيث أنها لم تبق بلاء إلا وأصابت به الجميع.قتل مهسا أميني لم يكن جريمة ضد فتاة كردية. كان جريمة قتل ضد كل إيرانية أخرى تُلاحق لأنها لم تضع الحجاب بالطريقة التي تُعجب “شرطة الأخلاق”. وهو جريمة بالأحرى ضد حرية الاختيار، وضد الحق في أن تكون المرأة كيانا متساويا، وإنها ليست عورة تتطلب الستر. ذلك أن العورة تكمن في الفقه الأعور الذي يعتقد أن النساء خلقن للمتعة فقط.الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران، على هذا الأساس، آخر من يمكن تحميل الاحتجاجات في إيران على أكتافه، لأنها أكتاف الغالبية العظمى من الإيرانيين، بمقدار ما أنها على أكتاف كل الأقليات التي تعاني ما يعانيه الفرس أنفسهم.
البحث عن شماعة، أمر مفهوم من جانب كل مأزوم بفشله. ومحاولة نظام الملالي أن يجعل من الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران مسؤولا عن الانتفاضة، لا تحل له مشكلته. ولا تغطيها. ورغم أنها تزيد هذا الحزب شرفا، وتعزز مكانته بين الأكراد، إلا أنها لا تكفي لكي تضفي على الاحتجاجات طابعا أقلويا. إنها احتجاجات وطنية، لا قومية. وهي احتجاجات تتعلق بالحقوق والحريات الإنسانية لا بالمطالب القومية للأقليات.نظام الملالي يتخبط، ولا يريد أن يرى الواقع بوضوح. وكل ما يحاول فعله هو أنه يُعمي بصره عنه لكي لا يواجه الأسئلة التي هرب من مواجهتها في كل احتجاجات أخرى.الإيرانيون يتظاهرون ويحتجون منذ العام 2009. والأمرُ سابقٌ لأي عقوبات قد تُلقى على شماعتها عوارضُ العقوبات الاقتصادية. ولقد تمكن هذا النظام من أن ينهب من العراق عشرات المليارات من الدولارات كل عام منذ العام 2006 إلى يوم الناس هذا. أي منذ أن تسلطت ميليشياته على مقدرات هذا البلد. ولكنْ ضاع كل ما تم جنيه، بالحلال وبالحرام في آن معا. غرق في دوامة الفساد والتسلح وتمويل النشاطات الإرهابية لفيلق القدس في الخارج، بزعم أنها تحمي “الثورة” من الأخطار التي تتعرض لها. وبزعم “تصديرها”، فلم تُصدّر إلا التشرذم والحروب الأهلية ولم تستورد للإيرانيين إلا الفقر.
وهو واقع امتد بمظالمه إلى كل الأقليات كنتيجة طبيعية لسياسات التمييز والتسلط، التي تُجبر الناس، بحكم طبيعتها وطبيعتهم، على أن يلتئموا حول إطار تضامني يوفر لهم قدرا، ولو محدودا، من مشاعر التكاتف والحماية، قوميا كان أو جهويا أو مذهبيا. لا فرق.وجود الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران جزء من تلك الطبيعة. وهو يستعين بأنصار ومسلحين، داخل إيران وفي كردستان العراق، كأمر لا مفر منه. على الأقل لكي يتوفر على مأوى من أعمال القمع والاغتيالات التي يتعرض لها أعضاؤه.الأكراد الإيرانيون هم ثاني أكبر مجموعة سكانية كردية بعد أكراد تركيا. إذ يبلغ عددهم نحو 10 ملايين نسمة، ويمتد وجودهم على خمس محافظات هي، كرماشان وإيلام وسنندجوأر ومياول ورستان، تمتد على مساحة تبلغ 175 ألف كيلومتر مربع، من أصل 1.6 مليون كيلومتر مربع هي مساحة البلاد.
وجود حزب يمثل تطلعات هذه الكتلة السكانية أمر لا يمكن تحديه. لأن التحدي مناف للطبيعة. ونكران أن تكون لهذه الكتلة حقوق قومية أو ثقافية، ليس سوى زيادة في العمى. ومنع هذه الكتلة من أن تتأثر بأوضاع جوارها القومي زيادة على تلك الزيادة، وهي ما تجعل القمع سلاحا وحيدا، لا يني يزيد في تأكيد المطالب والحقوق القومية المشروعة.سلطات الولي الفقيه تفترض الآن أن أكراد إيران فريسة سهلة. وأن قمعهم سوف يقدم درسا للآخرين، فيخفض الاحتجاجات. إلا أن حساب الحقل لن يساوي حساب البيدر.البيدر هو أن النظام نفسه فاشل في أعين نساء إيران، وطلاب جامعاتها، ومدارسها، وفقرائها الذين أثخنهم التضخم والبطالة والمرض جراحا فوق جراح العوز لأدنى الخدمات، حتى بلغت نقص الماء في أرجاء مختلفة من إيران.ملاحقة أعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيرانيين في العراق لن تحل أي مشكلة، مثلما لم تحل المشكلة الاغتيالات التي تعرض لها قادة الحزب، وكان من بينهم زعيمه عبدالرحمن قاسملو. كما أنها لن تصرف الأنظار عن أن الأزمة في إيران هي أزمة نظام ومؤسسات فشلت في أن تكون تمثيلا لمطالب وتطلعات الشعب الذي يستبد “وليٌّ فقيه” بمصائره، فساقه في دروب أزمات وحروب ونزاعات خارجية، ما كان لها إلا أن ترتد على إيران بما ارتدت عليها بالفعل.
لقد جنت إيران من عائدات النفط على امتداد الأربعين عاما الماضية نحو تريليوني دولار، ولكنها تعيش اليوم بمعدلات فقر صادمة، وبنية تحتية مهدمة، واقتصاد يغرق في هاوية بلا قرار. ولكنه يُنتج “يورانيوم عالي التخصيب”، فيحسب الفقيهُ المُشعُ للناس أنه قابل لإطعامهم!تقرير “مراقبة الفقر” الذي أصدرته وزارة العمل والرعاية الاجتماعية الإيرانية في أغسطس من العام الماضي، قال إن 38 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر في العام 2020، مقابل 32 في المئة في العام 2019. أي أن واحدا من كل ثلاثة إيرانيين لا يجد طعاما كافيا. ثم تريد لهذا الشعب ألا ينتفض! ثم تريد من نسائه أن يرتدين الحجاب بطريقة دون أخرى، وكأنه هو القضية! ومن ثم تريد للأكراد والبلوش والأذريين والعرب ألا يشعروا أنهم مضطهدون، وألا يبحثوا عن إطار تضامني يحميهم، أو عن سلاح يرفعوه!
إيران التي فشلت في كل شيء، نجحت مع ذلك، في أن تنتج صواريخ ومسيرات وميليشيات قتل ونهب وجرائم وحشية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.هذا هو النجاح الذي يريد الحرس الثوري الإيراني أن يحافظ عليه وأن يحمي به “ثورته”. وإذا وقع في أزمة وجد حلها في قمع الأكراد وملاحقتهم.كم يحتاج المرء من العمى لكي يعرف أنه أعمى؟