إن الصواريخ والمسيرات المتبادلة، على مدار الساعة، ومن أعوام، بين إيران، ومعها ميليشياتها العراقية واللبنانية واليمنية والفلسطينية، وبين أميركا وحليفتيها بريطانيا وإسرائيل جعلت من المنطقة برمتها حريقا دائما يحرم شعوبها، وشعوب العالم أيضا، من أمنها واستقرارها، ويلحق أفدح الأضرار بالمصالح التجارية والاقتصادية وحتى الأمنية لثلاثة أرباع الكرة الأرضية.ولا أحد يستطيع أن يفهم أسرار هذه اللعبة الممجوجة، ولا موعد انتهائها ولا الغرض المخفي الذي يحركها بعناية وإتقان.وهذا ما يجعل المراقب المحايد يطرح على نفسه أسئلة صعبة جوابُها أصعب ما يكون.هل معقول أن أميركا وبريطانيا وإسرائيل عاجزة عن ردع النظام الإيراني، خصوصا وهو يعاني من صعوبات اقتصادية ومالية وشعبية في داخلها، وتحديات جدية في خارجها؟
وهل معقول أن أميركا وبريطانيا بكل جبروت جيوشهما العسكرية والسياسية والاقتصادية عاجزتان عن وضع حد لعبث الشلل الحوثية الهزيلة، وحزب الله اللبناني، وميليشيات إسماعيل قاءاني العراقية بأمن المنطقة والعالم؟وهل معقول أن نظام المرشد الأعلى في إيران يدرك مدى قوة الدول الثلاث، أميركا وبريطانيا وإسرائيل ثم لا يخافها، ويصر على استفزازها، وتهديد مصالحها الحيوية، وإهانة جيوشها الجرارة المدججة بأحدث أسلحة عصر التكنولوجيا التي لا تملك إيران من مفاتيحها أكثر من أذن جمل؟
وتعالوا نحسبها بالعقل.
لم يفعل الراحل صدام حسين، في عز جبروته العسكري، ولو واحدا في المئة مما فعلته وما تفعله إيران التي يعرف المواطن العادي قبل السياسي المحترف، والخبير العسكري الإستراتيجي، أنها الممول والمسلح والمدرب والموجه الحقيقي الوحيد لجميع ميليشياتها في العراق ولبنان واليمن وفلسطين.فهو لم يجرؤ على تأسيس ميليشيات خارج العراق يحركها لإرهاب دول العالم، وبالأخص أميركا وإسرائيل.كما أنه لم يتمرد على النظام الدولي فيمضي قدما في تخصيب اليورانيوم وامتلاك القدرة على صنع السلاح النووي.
ولم يحتضن القاعدة والإخوان المسلمين والمنظمات الإرهابية القومية والدينية السنية والشيعية، ولم يتخادم معها، غير خائف من عقاب أو حساب.وحتى حين زلَّ لسانه وقال إنه “سيحرق نصف إسرائيل بالكيمياوي المزدوج” سارع إلى الاتصال بصديقه ملك السعودية فهد بن عبد العزيز آل سعود طالبا منه أن يرسل إليه الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة العربية السعودية في واشنطن والحاصل على علاقة شخصية متميزة مع الرئيس الأميركي جورج بوش ليحمل رسالةً منه يؤكد له فيها أنه لا يقصد تنفيذ تهديده، وأن تصريحه لم يكن أكثر من كلام في كلام.
ثم حين غضبت المخابرات المركزية الأميركية على حكومة جاك شيراك الفرنسية لأنها زودت صدام بمفاعل نووي تقابل مسؤولون فرنسيون كبار مع ثلاثة من ضباط المخابرات الأميركية وأبلغوهم بأن المفاعل العراقي مصمم بطريقة تمنعه من استخدامه لأغراض عسكرية في المستقبل، وأن المواد الخام المسلمة من فرنسا لاستخدامها في تشغيل المفاعل مصممة هي الأخرى بحيث لا تنفع في خدمة طموحات صدام حسين المستقبلية.ولكن رغم ذلك، كله، لم تحتمل أميركا خطاباته التهويشية عن تحديها ومحاربتها، ولا شعاراته المتشددة عن تحرير فلسطين، فأعدّت له ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل والبوارج والطائرات الشبح والصواريخ التي تطلق من البحر الأبيض المتوسط لتحرق أجمل وأثمن ما في عاصمة الرشيد، ولتمحو نظامه بالكامل في سبعة أيام، وتلقي القبض عليه، وتضعه وراء القضبان لتحاكمه إيران وتشنقه أمام عدسات آلاف محطات التلفزيون العالمية على أيدي أتباع الولي الفقيه، وفي أول أيام عيد الأضحى، إمعانا في التشفي والثأر والانتقام.
والمعروف، تاريخيا، أن إيران الخميني التي عجزت عن احتلال العراق لتبدأ منه زحفها إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، حتى غزا جورج بوش الابن العراق، ووفر لحكومة خامنئي، عن جهل أو عن سابق تصميم، فرصة مواتية لتُحقق، بالخديعة والتقية، ما عجز الخميني عن نيله بقوة السلاح.ولا يشك اثنان في أن إحكام القبضة على العراق ساعَد النظام الإيراني على الاستقرار في سوريا، والتمدد نحو لبنان واليمن وفلسطين.وهنا يحق لنا أن نتساءل، ماذا بعد شواطئ البحر الأبيض المتوسط؟ وهل تعتقد النخبة الحاكمة في طهران بقدرتها على تثبيت وجودها العسكري والسياسي الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، والاحتفاظ به إلى أمدٍ قادم طويل، بالرغم من عوامل عديدة واقعية وطبيعية تعمل على محاصرته، ثم على قلبه إلى هزائم متواترة متتالية ستأتي عن قريب؟
ففي عقائد المنظرين العسكريين أن استدراج الجيوش المعادية وجرها إلى الانتشار في أوسع ما يمكن من أرضٍ كفيلٌ بإشغالها بمعارك متفرقة عديدة تؤدي في النهاية إلى إنهاكها فهزيمتها.وفي التاريخ أمثلة عديدة على إمبراطوريات ضخمة أغراها التوسع السهل فبعثرت جيوشها في بلاد كثيرة فأصيبت بداء الترهل وسرطان التآكل الذاتي وانهارت وتناهبت الأممُ المضطهَدة أسلابها، ومنها الخلافة الأموية (661 – 750 ميلادية)، والخلافة العباسية (750 – 1258)، والإمبراطورية المغولية (1206 – 1368)، والإمبراطورية البرتغالية (1415 – 1999)، والإمبراطورية البريطانية (1497 – 1997)، وإمبراطورية سلالة تشينغ (1644 – 1912) آخر أسرة حاكمة في الصين، والإمبراطورية الاسبانية (1469 – 1975)، والإمبراطورية الفرنسية (1534 – 1980)، والإمبراطورية الروسية (1721 – 1917).
مع فارق كبير مهم بين أوضاع تلك الإمبراطوريات البائدة وبين الإمبراطورية الخمينية الجديدة. فالسابقات جميعُها كانت تموّل من مستعمراتها الغنية، بوسائل وطرق متعددة.أما الهيمنة الإيرانية الحالية فتقوم على عكس ذلك تماما. حيث تتحمل خزانة الدولة الإيرانية جميع نفقات تأسيس الميليشيات والجحافل والأحزاب والتنظيمات وإعاشتها وحمايتها وتسليحها وتدريبها في الدول التي تستعمرها أو تحاول استعمارها.فكل صاروخ وبرميل متفجر وقذيفة مدفع، وكل دبابة وطائرة تدفع ثمنها إيران، وتدفع أيضا جميع احتياجات تلك الميليشيات.
وليس صعبا على خبراء الشؤون العسكرية أن يعرفوا كلفة ما أطلقته وما تطلقه حماس وكتائب القسام من صواريخ وقذائف مدفعية، وما أنفقته على الأنفاق، وأثمان العشرات من الطائرات المسيرة والصواريخ التي يطلقها الحوثيون يوميا، وتحترق، وصواريخ حزب الله اللبناني العديدة اليومية التي يطلقها على شمال فلسطين المحتلة، بالإضافة إلى ما تستهلكه هجمات الميليشيات العراقية على قواعد أميركا في العراق وسوريا يوميا.هذا كله مضافٌ إلى كلفة إيواء جحافل القاعدة وتسهيل عبور قادتها ومجنديها وسلاحها من باكستان وأفغانستان إلى سوريا.دون أن نهمل عاملا آخر أخطر وأكثر تهديدا لوجود النظام الإيراني نفسه وليس ميليشياته وحدها. فدول الخليج العربية، ومنها وأولها دولة الإمارات العربية المتحدة التي تحتل إيران جزرها الثلاث، وتهدد أمنها واستقرارها، والمملكة العربية السعودية التي لا تقبل كرامتها ومصالحها الوطنية والقومية والدينية والإنسانية، رغم التهادن المرحلي الذي تم بينهما بوساطة صينية، أن تتخلى عن رغبتها الراسخة في المشاركة في أي جهد دولي حقيقي لردع نظامٍ لم يعرف العقلانية والوسطية، ولا يعيش إلا على إشاعة الفوضى والإرهاب، والعبث بمصالح الشعوب.