نواف شاذل طاقة
انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلات مصورة لآلاف الايرانيين وهم يحطمون بوابة الحدود العراقية – الايرانية ويدخلون الى العراق من دون سمات دخول ومن دون اتمام اجراءات تسجيلهم بصورة اصولية. وقد يتساءل المرء كيف تسنى لحشود الرعايا الايرانيين ان يتجمهروا على بوابة نقطة حدودية في منطقة بعيدة عن المدن، ومن اين جاء كل هؤلاء؟ وكيف سمحت لهم سلطات الحدود الايرانية العبور الى الضفة العراقية؟
هذه التساؤلات وسواها عادت بي الى احداث وقعت في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي حين كنت دبلوماسيا في وزارة الخارجية العراقية وشاءت ظروف عملي ان اكون عضوا في عدد من الوفود العراقية المفاوضة ذات الصلة بالعلاقة مع ايران. ففي سنة 1997 او ربما 1998 زار العراق وفد ايراني برئاسة نائب وزير الخارجية الايرانية للشؤون القانونية والدولية حينئذ الدكتور محمد جواد ظريف الذي يشغل اليوم منصب وزير خارجية بلاده، حيث عقدت مفاوضات بين الوفدين العراقي والايراني في مبنى وزارة الخارجية. كانت مسألة السماح للرعايا الإيرانيين بزيارة العتبات المقدسة في العراق من بين المواضيع المطروحة على جدول أعمال الاجتماع. وقد جرت العادة في مثل هكذا لقاءات أن تنفصل اللجان الفنية عن الاجتماع الرئيسي ذي الطابع السياسي لتتداول فيما بينها وتعود فيما بعد لتعرض ما توصلت اليه او ليحسم السياسيون ما قد اختلف عليه الفنيون. اذكر خلال جولة المفاوضات تلك ان احدى نقاط الاختلاف كانت تدور حول عدد الزوار الذين يروم الايرانيون دخولهم الى العراق. كان الجانب العراقي قد اقترح استقبال عدد محدد من الزوار الايرانيين يتناسب مع امكانيات العراق اللوجستية الامر الذي اعترض عليه الايرانيون مطالبين السماح بدخول أعداد هائلة من رعاياهم ما أثار استغراب وريبة الجانب العراقي. كان العراقيون يحاولون اقناع الجانب الايراني بأن دخول آلاف الزوار الاجانب يومياً الى مدينة كربلاء على سبيل المثال يستلزم تامين المتطلبات اللوجستية لاستقبالهم من فنادق ومطاعم ورعاية طبية طارئة فضلا عن تأمين حماية امنية لهم وما الى ذلك من مستلزمات السياحة الدينية. وكانت المخاوف العراقية مستندة إلى اسباب مادية آنية وأخرى تاريخية، فوزارة الخارجية كانت على سبيل المثال مطلعة بشكل تفصيلي على مشكلة توفير مياه الشرب ومعالجة مياه الصرف الصحي في مدينة كربلاء أثناء فترة الحصار حيث كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، قد اضطلعت في منتصف التسعينات بتوفير منشآت تحلية مياه وصرف صحي، وكان ممثلوها غالبا ما يشتكون للمسؤولين في الوزارة بأن منشآتهم تعجز عن تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي في كربلاء أيام الخميس والجمعة بسبب توافد أعداد هائلة من العراقيين إلى تلك المدينة لاداء مناسك الزيارات المقدسة. من جانب آخر، كان توفير السكن والأمن لمدينة يزداد عدد سكانها بنحو أربعة إلى خمسة اضعاف في يوم واحد ليصلوا إلى نحو مليون نسمة حينئذ يشكل عبئا آخر على أجهزة الشرطة والأمن والجيش. غير أن الخطر الأكبر الذي كان السياسيون يدركوه من دون أدنى شك يكمن في المخاوف المتأصلة لدى العراقيين من أن الايرانيين يريدون غزو مدننا المقدسة واغراقها برعاياهم الايرانيين ومن ثم تغيير الواقع الديمغرافي لهذه المحافظات العربية حتى تتحول مع الزمن إلى مشاكل اجتماعية وسياسية على غرار ما يحدث في بعض البلدان في المنطقة لينتهي المطاف إلى مطالبة ايران بضم هذا الجزء أو ذاك من البلاد إلى دولتهم بحجة حماية رعاياها، حيث أن مطالبة ايران بالبحرين مطلع السبعينات واحتلالها لجزر عربية في الخليج لم تكن غائبة عن الاذهان بتاتاً. لهذه الاسباب كان العراقيون متخوفين من مخاطر فتح الابواب على مصراعيها امام الايرانيين من دون ضوابط. اما الموقف الايراني فقد كان مثيرا للريبة والاستغراب اذ كان الدكتور ظريف يقول بابتسامة عريضة بان الزوار الايرانيين لا يحتاجون إلى اية مستلزمات، وأن على العراقيين ألاّ ينشغلوا كثيرا بتامين مطالبهم، وأن بوسع الزوار النوم في العراء وتدبير امر طعامهم وبقية متطلباتهم. كانت الحجج الايرانية بطبيعة الحال ليست مجرد غير واقعية بل كانت تعمق المخاوف العراقية من النوايا الايرانية المبيتة. شخصياً، كنت خلال تلك السنوات قد حظيت بفرصة الاختلاط والاستماع إلى آراء خيرة المفاوضين العراقيين ذوي الخبرة بفن المفاوضات، فضلا عما كنت قد سمعته في دارنا عن مكر الايرانيين في المفاوضات، إذ كانت أحاديث طويلة ومتشعبة قد دارت بين أفراد الاسرة بشأن المفاوضات المعقدة التي كان والدي رحمه الله قد خاضها عندما كان وزيرا للخارجية مع نظيره الايراني عباس خلعتبري في نيويورك قبيل وفاته سنة 1974 ولم تسفر عن أي نتيجة تذكر. وهكذا، فقد تعزز الانطباع لديّ بأن المفاوض الايراني عندما يبتسم بوجه نظيره على طاولة المفاوضات فانه يعد العدة لايقاع خصمه في فخ مهلك. وبغض النظر عن الجانب السياسي في هذه المفاوضات، فان الاطلاع على فنون المفاوضات مع الايرانيين يمثل بحد ذاته متعة ما بعدها متعة. فالمفاوض الايراني يشبه تماما الساحر في الحفلات الاستعراضية فهو لا ينفك أبداً عن تقديم العروض البهلوانية طيلة فترة العرض فتراه تارة يخرج أرنبا من تحت قبعته وأخرى طيرا أبيضا ثم يعود ليخرج مناديل ملونة وهكذا حتى ينتهي العرض من دون أن تنال منه شيئا. العراقيون، من جانبهم كانوا قد تعودوا على هذه الالعاب السحرية، فكان موقفهم منذ البداية ثابتا بشأن عدد الزوار المسموح دخولهم حيث وضعوا رقما محددا للزوار لم يتراجعوا عنه طيلة المفاوضات، مع تأكيدهم على ضرورة مغادرة الزوار الايرانيين العراق بعد انتهاء الزيارة، وهكذا تم الاتفاق في نهاية المطاف على استقبال ثلاثة آلاف زائر إيراني اسبوعيا يدخلون في حافلات خاصة على ان يسدد كل زائر رسما اظن انه كان نحو مائة دولار او اقل من ذلك بقليل. وعلمت فيما بعد أن الايرانيين كانوا يضعون رجلا معمما أو أكثر في كل حافلة وهو أمر لم تتدخل به السلطات العراقية. غير أن الحكومة العراقية وضعت آلية مناسبة تكفل عدم بقاء أي من الزوار في العراق لضمان تجنب استغلال الزيارات لاسباب أخرى.
اليوم وبعد ان رأيت اعداد الايرانيين الهائلة وهي تقتحم بوابة الحدود تذكرت الموقف الحكومي الايراني قبل اكثر من 15 سنة اذ يبدو أن الإيرانيين نفذوا اليوم ما عجزوا عن تنفيذه قبل خمسة عشر عاماً بألاعيبهم السحرية.. وان كانوا في حينه غير قادرين على اقتحام الحدود العراقية متى ما شاؤوا وباي عدد ارادوا فقد باتوا اليوم قادرين على تنفيذ ما يريدون دون خشية من أحد، فالواضح ان الايرانيين يدركون اليوم ان العراق بلد منتهك السيادة وفاقد للارادة. بيدّ أني لا اعتقد أن اللوم ينصب على إيران، فالاخيرة دولة ذات سيادة لها مصالح ولها سياسيين وجنود يدافعون عنها ويحرصون على سمعتها، لكن المشكلة تكمن فينا، فولاءات سياسيينا ليست للعراق بل لدول عدة في مقدمتها إيران، ومن ينسى عليه أن يتذكر الفيديو الشهير الذي يظهر فيه وزيرا عراقيا يتزعم اليوم أبرز فصائل الحشد الشعبي في العراق وهو يهرول وراء الزعيم الايراني خامنئي ليقبل يديه!!