عند كل تكليف جديد برئاسة الوزراء العراقية، وعلى وقع الوعود المفرحة التي يغدقها المرشح الجديد على شعبه الذي (يحبه) حتى النفس الأخير، وهو على شاشات التلفزيون لابسٌ جلد أسد، ومتخذٌ هيئة الزعيم الوطني الشجاع الذي لا يخاف في الحق لومة لائم،تُوافقه فئةٌ قليلة من المتعجلين المتعطشين للأمن والعدل والرخاء، في حين تظل الفئة الأكبر من العراقيين غير مبالية به وبأحلامه، ومؤمنةً بأنه لن يختلف عمن سبقوه، معتبرةأن الذي يخرج من بيضة فاسدة يكون فاسدا بالضرورة، ولا أمل فيه، ولا فيمن اختاره وسلطه على العالمين.
فهي لا تَنسى أيام ابراهيم الجعفري، ثم نوري المالكي، فحيدر العبادي، فعادل عبد المهدي، عند أول أيام الرئاسة.
فكل واحد منهم فعل الشيء ذاته، وأغدق على شعبه الذي يموت في حبه كلَّ أنواع الكلام الكبير، متعهدا بأن دولة العراق، على يديْه، ستنام ليلة واحدة فقط لتُفيق في صباحها وهي سويد جديدة أو سويسرا أخرى، بلا مفخخات ولا طائفية ولا محاصصة ولا عمولات ولا صفقات، وسينعم المواطن العراقي فيها بالحرية والكرامة والفرص المتكافئة المتساوية في العمل وأمام القانون، ولا يكون فيها تمييز بين عضو في حزب حاكم وبين مواطن معارض، أو عضوٍ في حزب آخر غير مشارك في سلطة المحاصصة، وسيعودالمهجَّرون في داخل الوطن وخارجه إلى منازلهم بأمان، وستفرغ السجون من ساكنيها الذين زج بهم المخبر السري، وخصوصا أؤلئك الذين مكثوا سنواتٍ عديدة دون محاكمة، وسيختفي سلاح المليشيات، وسينتهي الفساد ويُحاكم الفاسدون أمام القضاء العادل، بعد رحيل مدحت المحمود.
ويقسم بشرفه وشرف أمه وأبيه على أن دولته الجديدة ليست امتدادا للقديمة، ولا تشرب من حليبها، ومستقلة لا تخضع لوصاية أجنبية، ولن تتستر على عميل، حتى لو كان من رفاقه في حزبه العميل.
وثابت وموثق ومورخ ما ذاقه المواطنون كافة من أذاه وجهله وفساده، ومن فساد أسرته وحزبه ومرافقيه وسماسرته الذين أفقروا البلد، وأفسدوا الولد، وأعادوا الوطن سبعين عاما إلى وراء، وزرعوا في حياتهم كوارثَ لا يمحو أحزانها أحد.
مناسبة هذا الكلام المؤلم الممض هو البيان المُنقّى المُغلَف بالقطيفة والحرير الذي رسم فيه المرشح الجديد مصطفى الكاظمي تقاطيع وجه دولته الجديدة، دولة العدل والمساواة ونهاية الفساد والفاسدين واستقلالية القرار. وبالأخص حديثه عن دولة ما بعد الانتخابات المبكرة التي وعد بأن تكون شفافة ونزيهة وتحقق مطالب المتظاهرين.
ومعروف أن فكرة الانتخابات المبكرة كانت مطلب المنتفضين، وقد أجبر صمودهم عادل عبد المهدي على الاستقالة تمهيدا لإجرائها.
فقد اعتقد بعض شباب الانتفاضة المتفائلين بأن الجماهير الغاضبة على الفساد والفاسدين سوف تزحف بالملايين، وتنتخب مرشحيها الوطنيين الشرفاء، وتفوز بالأغلبية، وتجعل البرلمان القادم منبرا حقيقيا وطنيا مخلصا لها وحدها، ومستقلا عن كل وصاية، ونزيها لا يدنس ذيل أحدٍ من نوابه المالُ الحرام، وبالتالي تتمكن من تعيين حكومة وطنية شريفة تعيد الوطن إلى أهله سالما ومعافى، بدون محاصصة، ولا فساد، ولا عمالة.
ولكن بتشريح الواقع السياسي والأمني والمالي القائم والثابت تتكشف حقائق لا مجال إلى نكرانها.
فأحزاب السلطة هي الدولة، وسلاحُها هو الأقوى من سلاح الدولة والأكثر جرأة وفاعلية، وأموالها الأقدر على البيع والشراء.
وأية هيئة جديدة للانتخاب لن تجد مراقبين ومديرين ومنفذين وعدادين من غير أعضائها أو الواقعين تحت تأثيرها والخائفين من إرهابها.
ولا قيمة للقضاء الذي جعلته الأحزابُ ذاتُها موكلا بإدارة لعبة الانتخابات المبكرةوالتصرف بأمورها، فهو واقع تحت سلطانها وجبروتها وتهديداتها، باعتراف أكبر قادتها، هادي العامري، على شاشات التلفزيون.
وعليه فإن حماس أحزاب المنطقة الخضراء لهذه الانتخابات المبكرة لا يقل عن حماس المنتفضين، بل إنها أكثر تمسكا بها منهم، وأشد تصميما على إجرائها.
وذلك لعلمها اليقين بأن جيوش العالم كلها لو جاءت لمراقبة الانتخاب وهيمنت على جميع صناديق الاقتراع في جميع المحافظات والمدن، فلن تمنعها من تزويرها وكسبها.وسيكون فوزها هذه المرة، وفي انتخاباتٍ طالب المنتفضون أنفسهم بها، أكبر انتصار لها من جميع انتصاراتها في الانتخابات المزورة السابقة.
فهي ستمنحها شرعية جديدة تَسقُط معها حججُ المعارضين واتهاماتهم واعتراضاتهم، وسيبقى الفاسدون على رأس الوليمة سنواتٍ قادمة، بإرادة الشعب المحتج نفسِه، وبإشراف دولي لا ريب فيه.
وبهذا تكون فكرة الانتخابات المبكرة، في ظل ثوابت الواقع الفاسد الحالي وهيمنة السلاح والمال الحرام، أكبر خديعة وأخطر فخ ينصبه المتظاهرون لثورتهم، بلا جدال.
نعم، قد تكون هذه نظرة متشائمة إلى حد كبير، ولكن المقدمات لا تعطي إلا ما تسمح به من نتائج.
فالعراق، بوضعه الداخلي الحالي، وبجيرته الحالية، وبتماسيح أحزابه وتنظيماته ومليشاته، لن يعتدل بانتخابات جديدة، مهما كانت المبررات والمسوغات. فلا حل سوى ما يعرفه العقلاء المتنورون المتفتحون من شباب الوطن المحترق والمنتهَب، ولا حل سواه.