في شباط- فبراير من عام 1986 قامت السلطات البلغارية في مطار صوفيا باحتجاز طائرة عراقية والقيام بتفتيشها دون سابق إنذار مما تسبب في تأخير الطائرة عن موعد إقلاعها لمدة أربع ساعات، تم إخلاء سبيل الطائرة مع طاقمها، وبعد الرجوع إلى بغداد تم تقديم شكوى إلى رئاسة الجمهورية في ذلك الوقت ليصدر القرار بالمعاملة بالمثل بنسبة 300 في المئة.قامت السلطات العراقية باحتجاز الطاقم مع الطائرة البلغارية التي حطّت في مطار بغداد بعد يومين من الحادث لأكثر من عشر ساعات متواصلة مع تفتيش كامل للطائرة دون سابق إنذار، وتأخير تقديم الخدمات وحجز أمتعة الطاقم في مطار بغداد مع ضرورة تقديم تعهد من سلطة الطيران البلغاري إلى نظيرتها العراقية بعدم تكرار الحادث، مما دفع الحكومة البلغارية إلى تقديم اعتذار رسمي إلى العراق عن طريق وزارة الخارجية العراقية وعدم تكرار الخطأ مع الطائرات العراقية.
يُفترض بالسيادة أن تكون هي الإطار الفعلي لمفهوم الدولة، لكن موضوع السيادة ومفهوم الأمن القومي للعراق تغير بعد عام 2003 حيث باتت تُنتهك شرقاً وغرباً، وبتنا لا نرى ونسمع من السيادة سوى خطابات الشجب والاستنكار بأشد العبارات بألسنة متلونة كواقع المجتمع العراقي الذي أصبح كانتونات وطوائف بعد دخول الدبابات الأميركية إلى شوارعه.ألوان الطيف العراقي نسمعها تتباكى على السيادة الضائعة في أروقة السياسة، تصدح بها أصواتهم عند قصف الدول القريبة أو البعيدة، دون أن نفهم ما تعنيه تلك السيادة التي تتوزع إلى سيادة سنية، وسيادة شيعية وأخرى كردية، وربما نزولاً إلى سيادة الحزب والعشيرة.
تخيل الطعم المر للسيادة في بلد يستجدي ماء الشرب والسقي لأرضه من جارته تركيا، فيما تتحكم الجارة الشرقية إيران بأنبوب الغاز الذي يغذي محطات الكهرباء الوطنية في العراق لتنير ظلاماً دامساً وحلكة هي أشد وطأة من زمنهم، وأميركا التي تحتفظ بصندوق “مدخراته النفطية” ولا تعطيه سوى مصروف الجيب ليدبر أموره، فهل رأيتم سيادة أكثر من هذه السيادة؟يختلط علينا المعنى حين يتعذر الفهم في ظل قبول الاختراق والعدوان من هذا الطرف ورفضه من طرف آخر.وحين تتمعن في الصورة السوداء تجد أن المواقف حسب المصالح، كل شيء في العراق أصبح وفق الأهواء والتوافقات، هي المواقف التي جعلتنا شعوباً وقبائل.
تحولت السيادة العراقية إلى سيادات متنوعة تتوزع بين أقبية السفارات، غابت حين رحل سلطان الدولة عن المشهد بعد أن أصبحت للزعامات وتيجان الرؤوس حظوظ أعلى من إرادة الدولة بكل ما تعنيه، بل أصبحت إرادة الشخوص هي من تقرر وترسم لنا سياسات الدولة.الأمر الغريب أن الحديث عن مفهوم السيادة لم يعد يؤرّق الكثير من رموز السلطة وإن سمعناها قد ارتدت قناع الهيبة الكاذب، ونعترف أن الذين جاء بهم الغزو الأميركي وصفقات دول الجوار بمن يمثل مصالحهم وشؤونهم في دائرة السلطة ممن اعتادوا العيش في الشوارع الخلفية والأزقة المظلمة لدول الغرب والجوار الذين تسلّموا مفاتيح بغداد وصعدوا على جثث أبنائها وجماجمهم إلى كراسي السلطة، وصنع منهم المحتل طبقة سياسية لإدارة شؤون البلاد والعباد.
فائض الكلام أصبح الحديث عن السيادة في بلد مستباح تتصارع على أرضه جميع منتخبات العالم المخابراتية والتجسسية، فأيّ سيادة بعد ذلك نتحدث عنها؟الإرادة الإقليمية والدولية هي التي تتحكم بالمزاج العراقي حيث لا تسمح لقراره السيادي أن يأخذ طريقه للتطبيق إلّا بعد أن يمر عبر بوابات تلك القنوات الدولية وقد انتُزعت منه صفة الشرعية الوطنية.ضاعت السيادة حين مزقوا العراق ودنّست شوارعَهُ وترابَهُ آثارُ الاحتلال، ضاعت السيادة حين انكسر حرف العين في اسم العراق بعد أن كان مضموماً كما كان ينادي به شاعر العراق محمد مهدي الجواهري، حقاً إنه زمن بُكائية السيادة.