تتصدر هذه المفردة النوعيّة المثيرة كثيراً من الخطابات اللغوية والاجتماعيّة والثقافيّة والأدبيّة والفكرية والحضارية، ولها في كل مجال من هذه المجالات معنى ودلالة وقيمة ذات طبيعة إشكاليّة على مستوى الفهم والإدراك والتوجيه، وإذا ما نظرنا إلى المعنى الأول الذي يتبادر إلى ذهن من يسمع المفردة للوهلة الأولى بوصفها نقيضاً لـ «التعقيد» مثلا، سينصرف الذهن مباشرة نحو قضيّة ليس من الصعب فهمها والتعامل معها وحل مشكلتها الدلاليّة الأصيلة. وهي مفردة تنتشر بسعة كبيرة جداً على مساحة الفعل الإنسانيّ بطولها وعرضها داخل مختلف الثقافات والحضارات على مرّ التاريخ، لأنّها دائماً البداية الأولى لأيّ عمل ينطلق من بؤرة واضحة يكاد يتّفق الجميع على معناها.تمثّل البساطة أوّل الأشياء المُتعارَف عليها إذ يبدأ كلّ شيء في الحياة بسيطاً حين تحتضنه الطبيعة، ومن ثمّ تتعرّض البساطة عنده لاندفاعات شتّى من قيم حضاريّة تخترق الطبيعة وتلاعبها وتتصارع معها، فتتحوّل شيئاً فشيئاً نحو التعقيد لتخسر البساطة بذلك كثيراً من صفاتها لصالح حراكٍ حياتيٍّ لا توفّر له البساطةُ القدرَ الكافيَ من الاستمرار والنمو والتصالح مع حياة أخرى، فلو شئنا أن نعدّد أشكال البساطة ونمنحها على هذا الأساس مجموعة من الصفات اللائقة بها، سنكتشف أنّها كثيرة جداً قد لا تقف عند حدّ معيّن لفرط انتشار المفردة على انشغالات الإنسان في مفاصل حياته كلّها، وإذا ما بدأنا هذا الحفل اللغويّ بـ “البساطة العفويّة” فسندرك حتماً أنّها أقرب أنواع البساطة إلى المعنى الحقيقيّ الأصيل لها، لأنّ البساطة قد تأتي مرادفاً للعفويّة في سياق مركزيّ مهم من سياقاتها الأقرب إلى روح الدلالة، إذ إنّ مفهوم “العفويّة” يتحلّى بأكبر قدر ممكن ومحتمَل من بساطة الفكرة والتعبير والأداء والنتيجة، بما يجعل هذا التشكيل النعتيّ “البساطة العفويّة” يتعالى نحو قمّة الفاعليّة البدئيّة للأشياء على نحو يعبّر عن الجوهر المتطابق تماماً مع المظهر.
ينفتح هذا التشكيل النعتيّ على تشكيل آخر قريب منه هو “البساطة العارية” تتحرّى فيه هذه الصفة تخليص الموصوف من عوالقه الدلاليّة المرافِقة، فهي على هذا النحو بساطة أوليّة لا تنتمي إلى أيّ نعتٍ محتمَلٍ كي تكون في ذلك أشبه برمل الصحراء، إذ تواجه العالم بهوّيّة ذاتيّة صرف تستحيل على التحليل أو التأويل لافتقارها إلى القرينة المُساعِدة، فترتقي في سُلّم استقلاليتها كي تأوي إلى ذاتها وتستقرّ بين يديها بوصفها ذاتاً حرّة غير ملّوثة بالصفات.
تنتهي البساطة إلى وصفٍ “في درجة الصفر” يمكن نعتها بـ “الفقيرة” حين تفقد هذه البساطة كلّ ما يجعلها قادرة على العبور نحو صفة أكثر تقدّماً، أمّا بقاء البساطة أسيرة لصفة “الفقيرة” فإنّ هذا الأسر يجعلها تتآكل شيئاً فشيئاً حتى تذوب وتنتهي. بينما ترتفع بساطة مضادّة للبساطة الفقيرة يمكن وصفها بـ”البساطة الثريّة” التي تتوفّر على عمق ستراتيجيّ غائر في طبقات الأشياء، ولا يمكن لأحد أن يبلغها من غير كثير من التجارب الثرّة في مفاصل مختلفة من الحياة، وخبرة كثيفة تجعل من هذه البساطة مشحونة بما قلّ نظيره من صور الثراء المعرفيّ والحيويّ والإبداعيّ الخلاق. وثمّة عفويّة يمكن وصفها بـ”البساطة المقصودة” التي هي نقيض “العفويّة البدهيّة”؛ بما يجعل القصديّة هنا قائمة على أعلى درجات الفعل والجهد والعناء والتصدّي والحفر داخل حيثيّات الأشياء، أمّا ما يمكن نعته بـ “البساطة الجميلة” فيعود حتماً إلى عنصر الأداء الميدانيّ في ممارسة الأفعال البسيطة الأنيقة التي لا تحتاج إلى تعقيد، وتنتظم في هذا السياق النعتيّ “البساطة المثيرة” التي تحقّق بحكم بساطتها النوعيّة أكبر قدر من الإثارة في محيط فعاليّتها، بما يمكن أن نصطلح عليه في هذا المقام “جاذبيّة البساطة” عندما تكون قادرة على لفت الانتباه بقوّة نحوها داخل منظور جماليّ مبهر.
يمكن معاينة البساطة في درجة عليا من درجاتها بوصفها رؤيا للعالم تتحدّى الأساليب المختلفة لتحليل الرؤى واقتراح حلول لإشكاليّاتها، وتنفرد في قدرتها الفائقة على تمثيل الفكرة والقيمة والدلالة والعلامة ودفعها إلى ميدان التفكير الحرّ لإنتاج حالة مختلفة في النظر المنفتح على أفق كونيّ شامل، على النحو الذي يقترب ممّا بوسعنا تسميته “البساطة الصوفيّة” وهي تعاين الأشياء ضمن شبكة من الآليّات المتضامنة لحلّ لغز الرؤيا، إذ إنّ فضاء العرفان يستعصي على براهين العالم كلّها في قضية الوصول إلى فهم الآخر؛ لكنّه يستجيب بقوّة لنوع خاصّ من البساطة قد يكون من المناسب نعته بالبساطة الصوفيّة.
تخضع البساطة أحياناً في خضمّ مفاسد الحياة التي لا تنتهي إلى حالة من الافتعال تقودنا إلى وصفها بـ”البساطة المفتعلة”، وهي بساطة قد توهم من لا يفرّق بين البداهة والتصنّع فيقع ضحيّتها حين تتحوّل إلى مصيدة للمغفّلين، وبعكسها “البساطة الأنيقة” التي تعبّر عن جوهرها بأداء يحيطه الجمال والرفعة والسحر من جوانبه كافّة.
تحيل “البساطة التعبيريّة والتشكيليّة” على فضاء العمل الإبداعيّ الفنيّ لتصل إلى أعلى درجات الصوغ الجماليّ، وإذا ما اتفقنا على تسمية النوع الخارق من البساطة “البساطة المعجزة” فإنّ ذلك يجعلنا نفكّر فوراً بحالة الإبداع الخاصّة، لأنّها الحالة الأكثر توافقاً من المفهوم والقيمة الاصطلاحيّة الفلسفيّة القادرة على مقاربة إشكاليّات المعرفة بمجملها.