هناك شيء ما، غامض، يثير مشاعر الغثيان كلما تحدث “الحجي” عن “الفتنة”. ربما لأنه هو نفسه تلك الفتنة. وربما لأنه سوداوي الطبع، متآمر بالخلقة، خبيث في ضعفه، قوي في خبثه. وربما لأنه طائفي حتى النخاع، نكّار لهذه الصفة لأنه يعرف قذارتها. وربما لأنه مستعد لبيع كل شيء لصالح إيران حتى ولو كانت تؤذيه. من دون أن تشمل المبيعات ضميره، لأنه إذا بحث عنه، لن يلقاه.والمسألة هي أنه يُقلب جمرات الفتن، فإذا اتقدت نارا وكادت تكويه، دعا إلى وأدها وتبرأ منها، وجعل لسانه يشتغل بمعسول الكلام، حتى ليعتقد سامعوه، أنه ولي من أولياء الله الصالحين، بينما هو ولي من أولياء علي خامنئي.وتحوم من حوله الشبهات إلى درجة أنه كان رئيس وزراء عندما اختفت من دفاتر حكومته المليارات. ويطلق عليه لقب “الحجي”، على سبيل “التقية”، ولكنه زار البيت الحرام ليزكي ما فعل من الجريمة وما جمع من المال الحرام. وتحوم من حول الذين من حوله شبهات بأنهم أثروا بسرعات صاروخية، وجعلوا ثرواتهم عابرة للقارات، حتى لم يعد من الممكن إحصاؤها، أو المطالبة بها.
والحجي هو “شيخ الطريقة” بالنسبة إلى نظام المحاصصة الطائفي في العراق. والفكرة من وراء هذا النظام تقوم على قسمتين كل واحدة منهما أضيز من الأخرى.إيران والحجي يفهمان الآن أن مهاجمة المقرات التابعة لهما، هي دعوة، بالأحرى، لوقف التمادي بالجشع،الأولى، هي أن للجماعات الشيعية الحصة الأكبر في كعكة السلطة. وذلك على اعتبار أن الشيعة في العراق هم الأغلبية السكانية، ولكن من دون أن تعرف ما علاقة هذه الأغلبية بتلك الجماعات، أو لماذا استولت على الحق في تمثيلهم بينما هي جماعات موالية لإيران.
والثانية، هي أن لكل جماعة من هذه الجماعات نصيب من ذلك النصيب، بحسب عدد مقاعدها في البرلمان، وإنما وفقا لنظام غامض من الترضيات وتدوير المنافع والكراسي بين الوزارات. فيخرج الكل رابحا. ومن تفوته صفقة، يحصل على أخرى، أو يجري “التحاصص” في نسب المنهوبات.ولقد تعلمت جماعته طريقة للتقوى، بحيث لا تأخذ منك مالا بالحرام، ولكن تأخذه بالحلال، كأن تبيع لك صفقة بمليون دولار، على أن تشتري معها مسبحة بمليوني دولار.والنظام القائم في العراق قائم على هذه الحال. وهو لا يحتاج إلى أن يكون الحجي موجودا لكي يواصل أعماله التقوية، لأن الخديعة هي النظام، ولأن إثارة الفتن جزء من طبيعة المنافسة بين أركان النظام، جريا على القول القائل: “ما رأيناهم يسرقون، ولكن رأيناهم يختلفون على السرقة”.
والرجل بعد فلتة لسان العام الماضي، والتي تحولت إلى تسجيلات أنكرها ولو كانت بصوته، تعلّم ألا يتحدث بالخبث بنفسه، فتركه لغيره، لكي يتبرأ منه، ويدعو إلى وأد الفتنة.والحقيقة هي أنه أُخذ هذه المرة على حين غزة، فلم يلاحظ أن الإيرانيين هم الذين نظّموا الهجوم على والد مقتدى الصدر، لأنهم لا يريدون لأحد أن ينتسب إلى “مرجعية” عراقية. وحيث أن أربعة أخماس “المرجعيات العليا” في “حوزة” النجف موالون لعلي خامنئي، فما من سبيل لتكريس مكانة لمرجع قد يُشتبه أن له ميولا عراقية، ولا حتى على سبيل الذكريات بعد الممات. وهذا هو سبب السعي لتشويه صورة محمد الصدر. أما صورة مقتدى فقد شوهها هو بنفسه، عندما سلم السلطة لجماعات “التيار التنسيقي” على طبق من ذهب، وكاد يضع رأسه فوق الطبق، ليقدمه هدية للحجي.
وأما الشيعة العراقيون، فإنك لا تحتاج إلى أن تنكش الجمر تحت الرماد بقصبة، حتى ينتهزوا الفرصة لكي يحرقوا مقرات التابعين للولي السفيه. وذلك لأن بقية من بقايا العراق ظلت تتقد في نفوسهم فيثأرون لها. والكثير منهم يشعر بالعار من أن “التشيع” الإيراني، وهو سلطة حقد ونفاق، صار ميليشيات تتحاصص “التشيع” لتنهب العراق وتشيع فيه الجريمة والفقر والتخلف والفساد.وأما “الصدريون” فخلائط. بعضهم يتخذه مرجعا نبذا لمراجع أخرى. وبعضهم يتخذه غطاء لغطاء، وبعضهم يتذرع به بين العُصب.العراق الغني يفقر ويجوع، والناس ترى كيف تُنتهب المليارات، وكيف يجري تبديدها بطريقة الحجي، الذي تأسّست في ظل حكومته مصارف خاصة للميليشيات
وأما الشروخ والمفارقات، فإنها هي مصدر الشقاق بين الجماعات، بما فيها تلك التي توالي الولي السفيه نفسه. ليس لأنّ لكل منها طريقة، وليس لأن لكل منها هواه، بل لأن طبائع الفساد تفسد حتى بين الإخوة. وبالرغم من أنهم ارتكبوا جرائمهم معا، وتقاسموا حصصهم بالتراضي، فإنهم يتفارقون على أن النهايات بينهم ليست متساوية العطاء.والعراق الغني يفقر ويجوع، والناس ترى كيف تُنتهب المليارات، وكيف يجري تبديدها بطريقة الحجي، الذي تأسّست في ظل حكومته مصارف خاصة للميليشيات. وكان القول فيها: لماذا تسرق مالا من بنك، فتهاجمه كما هاجمت ميليشيا أحدهم فرعا لمصرف الرافدين، إذا كنت تستطيع أن تؤسس بنكا يسرق من مال الدولة بـ”الحلال”. المصرف المركزي يعطيك مليارات بسعر اليوم، وتردها له بسعر آخر غدا. والمصرف المركزي يعطيك قروضا، و”الدولة” تُسقط عنك الديون.. فهل يمكن للحلال أن يكون أكثر من ذلك حلالا؟
وهناك اليوم طريقة جديدة يرعاها “الحجي”، هي أنه إذا كانت البلاد قد ظلت لعقدين من الزمن تغرق بخراب المنشآت وفشل الخدمات، فإن مشاريع استثمارية أجنبية هي التي يمكن أن تعوض النقص، فتبدو الحكومة وكأنها تعمل للمرة الأولى بإخلاص، بينما تبقى عائدات النفط تخدم نظام المحاصصة، فتتقاسمها الجماعات والميليشيات تارة على بند “الرواتب” وتارة على بنود التعاقدات والمشتريات. وهي ترسل خُمسا مما تنهب لإيران، لأن الخُمس، هو من حصة “السيد” في جميع الأحوال. (20 مليار دولار هي حجم تجارة الزيف السنوية مع إيران، من كل 100 مليار دولار من عائدات النفط).ومن طبائع الجشع أنه يقتل صاحبه. وإيران لا تريد أن تكتفي بحصتها. ولكنها تريد أن تحيط الحصة بمرجعيات ترعى الولاء لها، وتحيطه بالحماية. وهذا يتطلب أن يختفي من النجف كل ذكر لمرجع يُشتبه أن جمرة العراق ظلت تتقد في نفسه، حتى بعد الممات أو بقيت له بقية في الذكريات.مقتدى الصدر إذا كان قد اختار طائعا أو خائفا، أن يجعل من نفسه رمادا، فقد عز على خلائط “الصدريين”، أن تُهان الذكريات أو أن يُساء لأسمائها، فانتفضوا، وبعضهم يخادع الخداع، إنما دفاعا عن جمرة تتقد.إيران والحجي يفهمان الآن أن مهاجمة المقرات التابعة لهما، هي دعوة، بالأحرى، لوقف التمادي بالجشع.