هناك مثل سائد في مجتمعنا العراقي، يصور حالة الحرج واللابد والحتمية في اتخاذ قرار ما على عجالة، يقول المثل: “الحديده حاره”. اليوم نمر بظرف ليس لنا فيه متسع للوم والتقريع او المحاسبة، وإن أنصفنا الحكم والرأي فإن ماوصل إليه بلدنا، بوضعه على شفا حفرة من نار، فإننا جميعا قد أسهمنا بإيقادها، وليس حكومتنا وساستنا وحدهم، كما أن كشف حساباتٍ وإثارة ملفات ونشر غسيل قديم ماعاد لها جدوى، إلا إذا كانت الجدية في تصحيح المسار هي نقطة الشروع فيما نمضي فيه.
وكما للأعمال أولويات، كذلك للمشاكل والمصائب أولويات أيضا، ولحلولها قطعا أكثر من أولويات ودرجات اهتمام قصوى، نشترك في صياغتها على النحو الأمثل والوجه الأكمل. وكلنا مسؤولون عن النتائج كيفما كانت، وليس لنا مناص من المواجهة الحقيقية -وإن كانت صادمة- مع الأمر الذي وقع والذي واقع لامحالة. وليس من مصلحتنا التهرب بعيدا، او الانزواء جانبا أمام ماتفرزه لنا الأحداث ومايستجد منها يوميا. وإن فرزنا العراقيين من حيث الولاء والانتماء للوطن، فهم على صنفين، صنف يمتلك مستمسكات رسمية بيروقراطية لا تعدو كونها حبرا على ورق، لاتنم بصلة إلى الولاء والانتماء الصادق إلى الدولة كوطن أم. والصنف الثاني، هم المجنسون بهوية عراقية بصمتها فصيلة الدم، وهم يستنشقون هواء العراق ويرتوون من ماء نهريه، ولهم امتداد روحي خالص من جذوره قلبا وقالبا، جوهرا ومظهرا، وكما نقول: (من الوريد للوريد). وكما أن الصنف الأول كثيرون، فإن الصنف الثاني كذلك، غير أن الصورة العامة تحكمها قاعدة: (الساية تعم). أو كما يقول مثلنا: “اثنين يبخرون وعشرة…”
وبذا فإن ثقل مسؤولية تصحيح المسار، يعوَّل على حمله العراقيون المنتمون روحا إلى تراب وطنهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر سأبين بعضهم في السطور التالية:
– الذين يستنشقون نسمات مدنهم بملء صدورهم وكأنها عبق من ريح الجنان، ولايستبدلونها بهواء بلاد غير بلادهم.
– العراقيون الذين تمتد جذورهم مع امتداد حضارات سومر وأكد وبابل وآشور، فيلتصقون بتراب الأرض المعطاء على مر العصور الغابرة واللاحقة.
– العراقيون الذين يجري في عروقهم دم لايستغنون عنه، كما هم لايستغنون عن الماء الذي يجري في أحضان دجلة والفرات.
– العراقيون الذين لاينام لهم طرف إذا مس شر او ضرر شبرا من محافظات عراقهم.
– العراقيون المتألمون لما حدث بالأمس ومايحدث اليوم على أرض وطنهم، والشاكون لأنفسهم عن سوء ما جناه رعاع خونة محسوبون على العراق والعراقيين، وهم لاينتمون اليه من قريب او من بعيد، كما يقول شاعر:
وددت لو يسـتعيد الدهر دورتــه
ولو لحظة من زمان الأمس تسـترق
ماذا سأشكو على الأوراق من ألـم
أقــل شـكـواي لايقـوى لـه الورق
نحـن انتمينـا الـى تاريخنـا بدم
وآخـرون علـى تاريخهـم بصقـــوا
إنه من غير المعقول أن يستوي الأعمى والبصير، ومن غير المستساغ ان يتساوى المحب للخير والجمال، مع الذين في قلوبهم مرض ولا يفقهون شيئا عن معنى الجمال وأشكاله وألوانه، فهم صم بكم عمي عن كل ماله صلة بالحياة.
هؤلاء الظلاميون هم الذين لايرون في دوران الأرض غير الصداع و (دوخة الراس) ولايرون في النجوم الزهر غير ضوء آفلٍ، ليس له في قاموسهم أي معنى، فيما يراها الطيبون الخيرون لآلئ تضيء صفحة السماء، فتبعث في نفوسهم التأمل في جمال الكون وعظمة صنيعة الخالق. اليوم نحن جميعا مطالبون بالوقوف أمام من يودون إرجاع عقارب حضارات العراق الى الخلف، وليس لهم من الحب والجمال والحياة الكريمة من شيء، هم بأسماء عديدة فمنهم؛ “الداعشي” ومنهم “الطائفي” ومنهم “السارق” ومنهم “الفاسد” ومنهم “المزور” ومنهم “المرتشي” وأغلبهم يشغل منصبا قياديا في مؤسسات البلاد، ويتوجب علينا جميعا مواجهتهم ما استطعنا، وأكرر ما ذكرت بادئ حديثي وبإلحاح: الحديده حاره.