عراقيون كثيرون من مثقفين واكاديميين واصحاب رؤية سياسية وامنية واقتصادية صائبة ، ( من بقي منهم وسط الجحيم ، او من فضّل الهروب الى الخارج للنجاة من حفلات الدم اليومية ) ، هؤلاء فضّلو الانتماء الى نادي الصمت طيلة السنوات التي اعقبت التغيير عام 2003 ، بدوافع متباينة ، لكنها تكاد تشترك بعدم الرغبة بزج اسمائها ومكاناتها العلمية والثقافية في اتّون صراع تتشابك خيوطه وتتشعب مساراته ، حتى لا يكاد يعرف من هم اللاعبون اصلا ، والى اي اهداف يسيرون ، ومتى ينتهون . الكثير انتمى الى نادي الصمت حتى لا يُحسب على ذلك الطرف او ذاك ، لمجرد رأي في قضية ، قد يزعج فصيلا و يرضي فصيلا آخر ، ويقع في فخ المتخاصمين وبنادقهم المصوّبة .
تلك الرغبة لم تكن خذلانا لقيم الدفاع عن الثوابت الوطنية ، او انحرافا عن مسارات احترام الحقوق والواجبات ، بقدر ماهي نأي بالنفس عن ذلك الصراع المجنون الذي لم يُبقِ وسيلة ( اقل مايقال عنها انها دنيئة ) الاّ واستخدمها .
ذلك الصمت لم يكن ضعفا او خوفا ، بل هو قراءة عميقة وهادئة لقيم التاريخ وحكمه القاسي على من ينغمس في دنائة الصراع وأثاره القذرة على مستوى الدولة والمجتمع .
لا أدري لماذا تذّكرت وانا اتخّلى عن عضويتي في نادي الصمت ، قصة رجل عراقي عجوز بسيط ، كان يتابع الاخبار ، وكل شاردة وواردة في عالم انصاف السياسيين المليء بالصراخ والعويل الكاذب على الوطن وابنائه المطحونين . لم يكن يكتفي ذلك العجوز بمتابعة مايدور حوله بنهم ملحوظ ، بل كان كثير التعليق ويطلق آرائه يمينا وشمالا ولو بصوت متهدّج .
تذكّرت اليوم ردّ الرجل على سؤال كنت قد طرحته عليه والمتعلق بسر انشغاله بتلك الاخبار والتصريحات التي تضجّ بها شاشات التلفزيون ، ودعوتي ايّاه بتركها حيث لا ناقة له فيها ولا جمل . قال لي وقتها بالعراقي وهو على مائدة البامية والتمّن: ( أبوية .. السياسة مو اني أروحلها ، هيّ تجيني .. هسّة شوف هاي البامية ، لو مو السياسة ، ليش سعرها يوم يصعد ويوم ينزل ؟ ) .
السياسة اليوم جائتني على مائدتي وانا أبعد محيطات وبحارا عن وطني المذبوح ( ذلك الذي لا ابدله بمغانم الدنيا كلها ) عندما علمت ان استاذا جامعيا وعقلا عراقيا فذّا ، تربطني معه علاقة متينة ، اعتقلته قوة هائلة من مكافحة الارهاب ، مدججة بمختلف انواع الاسلحة الاوتوماتيكية التي تعمل بالليزر ، بعد ان داهمت منزله فجرا مستخدمة القنابل الصوتية في تهشيم البيبان ، ما بث الرعب والهلع في قلوب بناته وتعرض ابنه ذي الاثني عشر عاما لشتى انواع الضرب والاهانة ، بدعوى كيدية تقدم بها مخبر تقول ان هذا الاستاذ الجامعي الفذ انما هو قيادي بارز في خلايا ارهابية تريد ايقاع الاذى بابناء الشعب العراقي .
بالله عليكم ، ايحق لي ان ابقى في ناديكم ايها الصامتون ، وانا أرى واحدا من خيرة العقول العراقية التي تتغذى من شريان حب الوطن والانتماء الحقيقي لمائه وهواءه يجرجر خلف القضبان كأي واحد من المجرمين والقتلة العتاة ؟
كيف يصدّقون ان عقلا شفافا مليئا بالعلم والمعرفة وحب الوطن هو عقل ارهابي ؟ وهو يسعى لخراب البلاد ؟ كيف يمكن ان تضرب عشرات الشهادات والبحوث والدراسات العلمية بعرض الحائط ؟ وتنتهك حرمات البيوت وتوزع التهم على الناس الابرياء هكذا ؟ لمجرّد ان شخصا يريد الانتفاع ، او ان لديه دوافع شخصية ابلغ القوات الامنية بأن هناك ارهابيا يريد قتل الناس ؟ كيف يسمح لشخص يمكن ان يكون دنيئا ان يوقع بآخر هو فخر من مفاخر البلاد ؟
كلا يازملاء النادي .. لن اكون من بين اعضائكم بعد اليوم . قولوا عنّي ماتشاؤؤن .. وصفوني بما تشتهون من صفات .. لن ابقى مكمما ولن اسكت. وسأقول ان مايحدث اليوم بحق ابناء جلدتي ظلم لايمكن القبول به او الاذعان له .
لن اتهجم على احد ولن اكيل السباب .. لكني سأقول ان تلك الممارسات ستعجّل بنزع عضوية كثيرين غيري من ناديهم الصامت الذي مضى على عمره اكثر من عشر سنين.
سنعلن رفضنا لكل ماهو شائن .. ونقف بوضوح وعلانية مع الحق اينما يكون .. نساند المظلوم من اي ملّة كان .. ونفضح الظالم مهما كان ..
ولن تعنينا بعد ذلك لومة لائم ..
الخروج من نادي الصمت … بقلم رائد احمد
آخر تحديث: