إيران بارعة في مسح بصماتها عما جرى قبل أسبوع في غزة. مسرح الحدث يغص بمؤشرات الدور الإيراني، ولكن لا بصمات آنية تجعل من السهل على إسرائيل أو الولايات المتحدة أن تربطا بين طهران والعملية المذهلة التي أقدمت عليها حماس. إتقان منع الربط المباشر كان محترفا إلى درجة جعلت من الولايات المتحدة، وليس أي دولة غربية أخرى، تقول إن لا دليل على ضلوع إيران المباشر. لكن عدم توجيه الاتهام لا يعني التبرئة.
ما يجمع الغرب وإسرائيل ومعظم الدول العربية هو أنها أمعنت في إهمال الفلسطينيين، سواء السلطة الفلسطينية أو حماس، بل وحتى الفلسطينيين العاديين. السياسيون الفلسطينيون يتحملون جزءا كبيرا من اللوم للوصول إلى هذه القطيعة، لكن الغرب والدول العربية يتحملان بدورهما جزءا من المسؤولية. إسرائيل، أو أكثر تحديدا إسرائيل بنيامين نتنياهو خلال العشرين سنة الماضية، تعاملت على أن لا طرف فلسطينيا أمامها، وتجاهلت السلطة بالمطلق ولم يكن لديها أي مانع من إضعاف حماس لسلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى درجة لا أحد يعرف اليوم ماذا يفعل عباس بالضبط في رام الله. وهم القوة الذي شكل عقلية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان يعتبر الانقسام الفلسطيني بين سلطة معوقة في الضفة الغربية، وحماس منفلتة بحدود معروفة المدى يفيد الإستراتيجية الإسرائيلية. إذا كان ثمة استنتاج أولي من عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حماس في منطقة غلاف غزة، فهو: كم كان نتنياهو مخطئا.
لا أحد يريد أن يتحدث أو يتفاوض مع الفلسطينيين كان الموقف المثالي الذي تسللت منه إيران. كلما ابتعدت الدول العربية سياسيا وماليا عن الفلسطينيين، كلما صار بوسع إيران أن تتحكم بحماس أكثر. وفيما عدا قطر، التي استمرت بإرسال المال إلى سلطة حماس في غزة بموافقة إسرائيلية، فإن حماس انضمت إلى قائمة مجاميع سياسية وعسكرية متزايدة تدين بالولاء لإيران. كل حروب غزة تقريبا كانت ترتبط بتوقيت توتر بين الغرب وإيران، وتمكن الحرس الثوري الإيراني وشبكة الولاءات السياسية لطهران الموجودة في الشرق الأوسط وأفريقيا من إيصال السلاح والتقنيات المتطورة من صواريخ بعيدة المدى ومسيّرات إلى حماس لتتحول إلى جيش صغير شاهد العالم كيف كان بوسعه اختراق حدود إسرائيل بكل سهولة، وقادر بإمكانياته أن يجعل إسرائيل تتردد في اجتياحها البري المحتمل لغزة. وفيما عدا بقايا جيوب في العراق ولبنان وسوريا واليمن ممن اكتووا بنار إيران مباشرة أو عبر ميليشياتها، فإن شعبية إيران في تدخلها في فلسطين ودعمها لحماس والجهاد الإسلامي وصلت اليوم إلى ذروتها. التمدد الإيراني المذهبي يبدو تفصيلا صغيرا اليوم أمام ما ينسب لإيران من دور في دعم حماس وتوفيرها الفرصة للفلسطينيين من توجيه ضربة قد تكون الأقسى تاريخيا لإسرائيل.
لا تلومن الدول العربية إلا نفسها. فالقطيعة مع الفلسطينيين، وإن لم تكن لصالح العلاقة مع الإسرائيليين، أوجدت وضعا نفسيا لدى أجيال من الغزيين وفلسطينيي الضفة يجعلهم جزءا من خارطة الطريق الإيرانية للمنطقة. لم يختلف وضع الفلسطينيين هنا عن إهمال لبنان وترك الموقف لصالح حزب الله، أو الخوف من التدخل في عراق ما بعد 2003 وهو الأمر الذي جعل العراق يدور في الفلك الإيراني حتى في الوقت الذي كانت فيه قوات الاحتلال الأميركية على أرضه وصولا إلى تحول المقاتلات الأميركية إلى قوة جوية مستأجرة تعمل لصالح الحشد الشعبي الولائي في حرب استرداد شمال وغرب العراق من داعش، أو ترك الدولة اليمنية تتفكك وعدم التدخل المبكر في مواجهة الحوثي، آخر نماذج الميليشيات ذات الولاء المطلق لطهران.
إيران الحاضرة في كل ملفات المنطقة هي إيران ملء الفراغات التي تركتها الدول العربية في بلدان رئيسية، وهي إيران التي استكملت طريق طهران البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان، وإيران التحكم بالمضائق شرقا عند مضيق هرمز وجنوبا في باب المندب وشمالا غربيا في غزة ليس بعيدا تماما عن قناة السويس. خارطة القلق من إيران مكتملة جغرافيا وعاجزة سياسيا.
لسبب ما، تطابق إهمال العرب للفلسطينيين مع إهمال الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لهم. كان نتانياهو، الذي تصدر المشهد السياسي الإسرائيلي خلال عقدين، يعتقد أن القضية الفلسطينية ستسقط بالتقادم والإهمال. كلما أمعن بعدم التواصل مع الفلسطينيين، كلما زادت فرصة “تبخرهم” في الهواء. لم يقرأ نتنياهو أو يفهم تاريخ العقود الماضية من الصراع، أو مركزية القضية الفلسطينية في الوجدان العربي والإسلامي. بنى الإسرائيليون سياجين بينهم وبين الفلسطينيين؛ واحد من الكونكريت في الضفة، وآخر من نار وقصف في غزة. ومع وصول حكومة يمينية متدينة ومتشددة لحكم إسرائيل، كان الوهم الإسرائيلي قد تحول إلى سياسة دولة. لكن لا القصف الإسرائيلي لغزة ضمن الأمن لإسرائيل ولا العمليات اليومية للجيش والمستوطنين غيرت من الوضع في الضفة. كل شيء كان يشير إلى الانفجار القريب. ومع الوهم، ساد الغرور وأخفقت أجهزة الأمن الإسرائيلية في تفسير الإشارات المتزايدة.
ستذهب إسرائيل بعيدا في انتقامها. لكن نتنياهو في موقف لا يحسد عليه. فمهما أمعن في انتقامه ومهما أعلن عن انتصارات على حماس، على أرض غزة أو في استهداف قادتها حول العالم، فإن يوم الحساب ينتظره. الإسرائيليون يعيشون عقدة الأمن، وإذا بهم أمام الكابوس الكامل. نتنياهو في حكم المنتهي سياسيا ومعنويا مهما كانت نتائج العمليات العسكرية الحالية في غزة.
لا نعرف هل الوهم الأميركي هو نتاج القطيعة العربية مع الفلسطينيين أم تتمة للوهم الإسرائيلي. لكن من المؤكد أن واشنطن لا تملك سياسة واضحة في التعامل مع المنطقة عموما، ومع الفلسطينيين على وجه الخصوص. اشرحوا لنا كيف يمكن أن توقّع إسرائيل والسعودية على اتفاقية لإقامة العلاقات برعاية أميركية من دون المرور على الفلسطينيين. حتى السعوديون أنفسهم، وعلى مضض، ربطوا التطبيع مع إسرائيل بالتطور في استرداد الفلسطينيين حقوقهم. وبعد إهمال سعودي طويل، اليوم ترن هواتف الزعماء العرب المعنيين بالأمر، في رام الله والقاهرة وعمان، بمكالمات من الرياض. هذا نوع من الهرولة السياسية السعودية لتصحيح وضع غير طبيعي استمر طويلا، وكانت الولايات المتحدة، بإداراتها الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة، تشجع الرياض عليه. هذا تشجيع يعكس ارتباكا سياسيا أميركيا كان هدية سياسية من طراز خاص لإيران.
الارتباك الأميركي يتجسد اليوم أيضا بما يقوله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن. إدارة الرئيس جو بايدن لم تعجز فقط عن ربط الإيرانيين بما حدث في غزة، بل لا تزال تتخبط سياسيا كما بينت تصريحات بلينكن في الدوحة. يريد تقييد المليارات التي أطلقتها واشنطن من الأموال الإيرانية وتم تحويلها إلى بنوك قطرية لأن إيران تدعم حماس. لم يجد عاصمة أخرى يقول منها هذا الكلام غير الدوحة. فعلى بعد خطوات من المكان الذي تحدث منه، يقيم كبار قادة حماس ممن ينافسونه على عدسات كاميرات الجزيرة في تصريحاتهم النارية المرتبطة بحرب غزة. الكوميديا السياسية الأميركية وصلت مجدها.
عملية “طوفان الأقصى” أعادت تأهيل الفلسطينيين، سياسيا وعسكريا بصيغة حماس، ومن باب العجز عن إيجاد البدائل في صيغة عباس والسلطة الفلسطينية. لكن لا الدول العربية ولا إسرائيل ولا الولايات المتحدة لديها أي خطة للتعامل مع الوضع الراهن. حتى يجدوا خطة من نوع ما، تبقى الأمور برهن إرادة إيران، سواء التقطوا بصماتها من مسرح الحدث في غزة أم عجزوا عن ذلك.