الرئيس أوباما في برلين
د. ضرغام الدباغ
قبل خمسون عاماً، عندما زار الرئيس جون ف . كندي الجزء الغربي من برلين، يومذاك لم تكن برلين عاصمة ألمانيا الموحدة، بل كان كانت مدينة مقسمة، الجزء الشرقي منها، وهي في الواقع القطاع السوفيتي من المدينة، تأسست عليها عاصمة جمهورية ألمانيا الديمقراطية، فيما بقيت القطاعات الثلاث : الأمريكي / الفرنسي / البريطاني مدينة حرة، خاضعة في إدارة مشتركة لدول مؤتمر لندن الرباعي.يومها قال الرئيس الأمريكي الراحل نصاً سوف لن تنساه ذاكرة المدينة التاريخية / السياسية عندما كان يخاطب الجماهير من على شرفة بلدية شونبيرغ (أحدى أحياء برلين الغربية) بل ولفظ الجملة باللغة الألمانية ” ich bin ein Berliner ” وتعني نصاً ” أنا برليني ” يومئذ كانت هذه الجملة لها وقعها المدوي، واعتبرت دعماً هائلاً شخصياً ورسمياً من رئيس أكبر دولة في العالم في إحدى بؤر التوتر.ثم وقف الأمريكان بقوة إلى جانب الوحدة الألمانية في وجع معارضة أوربية شرسة، لا سيما من بريطانيا تاتشر، وحليف ألمانيا الاستراتيجي فرنسا / ميتران، ولكن البيت الأبيض رمى بثقله لصالح الحلم الألماني وتحققت الوحدة بعبقرية الثنائي الألماني : المستشار هيلموت كول، ووزير الخارجية هانز ديترش غينشر، ولكن بدعم قوي من الإدارة الأمريكية (ريغان / بوش الأب) وهنا كانت لليد الأمريكية دور لا ينسى في تاريخ الشعب الألماني الحافل بالآلام والأحزان والانتكاسات.كل ذلك جيد، يذكره الألمان في المناسبات بطيبة خاطر، ولكن خطبة كندي النارية مضى عليها خمسون عاماً، والوحدة الألمانية ثلاثة وعشرون عاماً، وقد تغيرت المشاهد والمواقف على مسرح السياسة الألمانية والأوربية والعالمية، والألمان يريدون تأسيس مواقف على المعطيات الواقعية الحالية. وهذا جيد أيضاً هكذا يردد الأمريكان، الأوربيون يقولون أن الاتحاد السوفيتي لم يعد قائماً، والمعسكر الاشتراكي صار ضمن الاتحاد الأوربي وحلف الناتو، فالدب السوفيتي / الروسي صار بلا مخالب ولا أنياب، رغم أنه ما زال قوة دولية يمتلك قوة سياسية في مجلس الأمن، وقوة عسكرية استراتيجية كبيرة، ولكن حلفاء الأمس صاروا اليوم خصوماً والروس يعترفون بواقعية أن الدنيا قد تغيرت.حاول الأمريكان بعد تفكك الاتحاد السوفيتي إقناع الأوربيين بضرورة الحفاظ على الناتو، فهم يعتقدون بضرورة اتحاد الإرادة السياسية / العسكرية على ضفتي الأطلسي لمواجه تحديات قائمة، أو هي في طور التكوين، والأوربيين لم يكونوا شديدي الاقتناع بهذه النظرية، واعتقدوا أنه جهد أمريكي للحفاظ على الموقع القيادي،، وأتبعوا خلال العقدين الماضيين سياسة مسايرة رغبات الولايات المتحدة، تجلت في معارضة علنية أو من وراء الكواليس لمشروع الدرع الصاروخي الأمريكي، الذي لم تقبل به سوى بولونيا وجيكيا، ويغمزون منقناة هاتين الدولتين أنهما قد خضعتا للرغبات الأمريكية.ودار مصطلح معارض الولايات المتحدة (Anti Amerilcansim) سراً وعلناً في الأروقة السياسية الأوربية (عدا بريطانيا) أبان اشتداد السياسة العالمية الأمريكية الحرب ضد الإرهاب، النظام الدولي الجديد، ونجم عنها اشتباك العالم الغربي في العديد من الجبهات، رغم المعارضة الغير واضحة، فألمانيا مثلاً يتواجد جنودها في حوالي أحد عشر دولة في مختلف القارات (مالي/ الكونغو / السودان/ جنوب السودان / قوة بحرية الصومال / أوغندا / قوة بحرية لبنان / أفغانستان / كوسوفو / أوزبكستان / تركيا). ولا يخفي الأوربيين، ومنهم ألمانيا ضيقهم وتبرمهم من هذه السياسة، رغم أن ذلك يمنحهم وزناً دولياً مضاعفاً، ولكن الأوربيون أعينهم على اقتصادهم الذي يعاني من متاعب جمة، نعم هم يطمحون لتوسيع دورهم الدولي، ولا ينكرون خشيتهم من الإرهاب، ولا ينفون قلقهم من التوسع الصيني، والانتعاش الروسي الذي لم يبلغ حدوداً خطرة بعد، ولكن الأزمة الاقتصادية بدورها خانقة وتهدد بافلاس دول واقتصاديات كبرى (فرنسا، إيطاليا، هولندة)، وحيال هذه الحقائق والوقائع يقول الأوربيون : نعم الأمريكان محقون … ولكن …..!الرئيس أوباما أختصر هذه الهواجس والهمسات والمشاورات، بأن قاد سياسة هادئة، قد لا تمثل الطموح (Idial)، ولكنها تمثل الواقعية السياسية(Riyal). فمنذ ولايته الأولى صرح علناً لننسحب من العراق بحكمة كما ذهبنا إليه بحماقة. كما لا يخفي سياسته بالانسحاب من أفغانستان، وخفوت الحماسة الأمريكية حيال الدرع الصاروخي في أوربا، وسحب قطعات القوات الأمريكية، ومن تلك الجوية والبحرية أيضاً من أوربا، ولا يوجد الآن في أوربا سوى لوائين مع الفوات المساندة (جحفل لواء) بعد أن كان يبلغ 300.000 ألف جندي، ولا يود الأمريكان كثيراً سماع مخاوف وهواجس أوربية، فسياسة البيت الأبيض التي لن نعد سرية لكثرة ما دارت النقاشات حولها (زار وفد من الكونغرس الأمريكي برلين ودارت محادثات معمقة حول موضوعات كهذه ربيع 2013). فالأمريكيون بصدد بلورة سياسة جديدة، مفادها فليتحمل كل نصيبه من التكاليف، وإذ ستبقى الولايات المتحدة القوة الأعظم في العالم الغربي، إلا أنهم يترجمون نظرية( driving from behind) أو (leading from behind) القيادة من الخلف، وهم بصدد صياغة أفكار استراتيجية عسكرية، ومن تلك تكثيف وتطوير أستخدام الطائرات بدون طيار، وغيرها من الأفكار، إضافة إلى موضوعة مهمة أنهم تخلوا عن فكرة قيادة العالم، ويعترفون بعالم متعدد الأقطاب. ومع حلول الولاية الثانية للرئيس أوباما، تميل الإدارة الأمريكية إلى السياسة المرنة، واعتماد قبول أفكار مضادة، واعتبار الإدارة الأمريكية كورشة عمل لتصحيح مسار أخطاء كبيرة لم تؤد إلى موقع القوة للولايات المتحدة، بل إلى إضعافها، وحصيلة برنامج أوباما، بناء أمة (Nation building) من الرعاية الصحية حتى البناء الارتكازي (Infrastruktur) كان على حساب تقليل النفقات والتخصيصات للدفاع، وقد أدى إلى نتائج مؤلمة في البنتاغون، وقلل من قدراتها في التدخل في أرجاء العالم.حروب جورج دبليو بوش يجري تسويتها، وأحلام “المحافظين الجدد ” لإنشاء إمبراطورية ديمقراطية خالية من الأزمات الاقتصادية لم تعد واقعية، ففي عهد باراك أوباما وضعت سياسة خارجية جديدة متواضعة ، فالرئيس يقول : الأفضل أن نشيد دولة وطنية في بلادنا “.كلمة السر في سياسات الإدارة الأمريكية هي الاقتصاد ! فبرغم إنه لا يزال هشا، إلا إن نسبة 2% من النمو هو أفضل بكثير مما هي عليه في منطقة اليورو الطافحة بالأزمات، ومنها كارثية، وبرغم أن الإجراءات الجديدة ليست بما يكفي لخفض الدين الوطني. فهناك حاجة إلى زيادة الضرائب وخفض الإنفاق. وفي مطلع هذا العام. قام أوباما برفع بعضها وإن بشكل رمزي متصدياً بذلك لنواب الحزب الجمهوري، ولهذا أيضاً يضغط النواب الآن بأتجاه برنامج توفير، مقابل كل دولار ضريبة إضافية توفر ما يقرب من 3 دولار التخفيضات.حل الرئيس أوباما في برلين بزيارة أطلق عليها الإعلام عائلية، إذ حرص أن يهبط من طائرته تتقدمه أبنته الصبية، ومعانقاً زوجته، وأستعرض برفقة زوجته حرس الشرف البسيط، وكان في استقباله وزير الخارجية السيد فيستر فيلة، ورافقته عائلته حيثما حل في زيارة لم تستغرق سوى ساعات، أقل من 24 ساعة. وسأل معلق القناة التلفازية الأولى الوزير فيستر فيلة، زيارة بدون عبارت مهمة، ولا جمل ذات قيمة كبيرة، وشاء الوزير أن يدافع عن أهمية الزيارة ومنحها قيمة تاريخية بالإشارة إلى ورد في خطاب الرئيس أوباما، أقتراحه على القيادة الروسية تخفيض الرؤوس النووية لدى البلدين بدرجة الثلث. ولكن هذا المقترح الأمريكي الذي أجاب عليه الرئيس بوتين، وهو بالتأكيد مدرك بدقة تامة لأبعاد الموقف والمعطيات الأمريكية : وماذا عن التسلح النووي في العالم بأسره.الوزير الألماني أكد أن مبادرة الرئيس الأمريكي التي أطلقها من برلين، مهمة وأستراتيجية، ولا تقلل من أهميتها الرد الروسي، إن المخزون العالمي من الرؤوس النووية يبلغ 17.000 ألف رأس نووي، والمحادثات الأمريكية الروسية قد تقود لاحقاً في صفحاتها المقبلة إلى تفاهم عالمي لنزع السلاح النووي.إذن فالزيارة بأسرها لم يترتب عليها مواقف والتزامات ولا اتفاقات سياسية شاملة، حتى حول الموقف حيال سوريا، كان يشوبه عدم تفاهم الأطراف الأوربية، أو الأوربيين والأمريكان، الكل يتفق أن الرئيس الأسد أصبح خارج الصورة المقبلة في سوريا، سواء أتفق هذا مع مزاجهم أو أختلف، ولكن كيف هي سورية الجديدة، ومن هم قادتها، وماذا سيكون عليه تفاصيل المسرح السياسي في الشرق الأوسط، وبالطبع الخشية هنا على إسرائيل وضمان موقع لها في صدارة الصورة، وأن لا تهتز التوازنات الهشة أساساً.