توفر القافية جرساً إيقاعيا وعقداً ثقافيا – في آن واحد – بين شاعر القصيدة العمودية والمتلقّي؛ أما الجرس الإيقاعي فهو من أنساق الترغيب الثقافية التي يؤسسها إيقاع حرف الروي الذي يجعل المتلقي في حالة ترقب، وأحيانا، تكهن بكيف ستأتي القافية؛ وأما العقد الثقافي فيكمن في المطلع والتصريع الذي يمثل الركيزة الأساس وأهم بنود العقد الثقافي بين الشاعر والمتلقي، لذلك يبقى المتلقي مشدودا لما ستكون عليه القافية وهل هي ضمن حدس ذائقته؟.
في القصيدة العمودية، عربيا وعراقيا، قديما وحديثا، يجد الشاعر نفسه مكبلا بالقافية، ويسير باتجاهها هدفاً أسمى من غاية الشعر وبوحه.
ففي بيت أبي الطيب المتنبي:
ومن يطلب الفتح الجليل فإنما
مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
والبيت، كما هو واضح، قد انتهى بـ (البيض) لكنّ أبا الطيب أخذ يستعرض أسماء السيوف ليصل لما يتوافق مع حرف الروي في (الصوارم) ليتم العقد الثقافي بينه وبين المتلقي؛ ولعل هناك من يتساءل هل المتنبي عاجز عن ملء عجز البيت بألفاظ تؤدي إلى معنى أوسع؟ والجواب: بل قادر على ما هو أكثر من ذلك وحسبه أنه (الصائح المحكي والآخر الصدى) لكنه ساير الذائقة ووافق رغبة المتلقي، ثم صدم المتلقي بأن البيت انتهى في لفظة البيض وما بقية أسماء السيوف الا حشو وافق خدعة الإيقاع ورغبة المتلقي في نغمة حرف الروي.في العصر الحديث هناك الكثير من التبذير اللغوي، لا سيما ذلك الذي يصفق له البلاغيون وأعني خدعة (رد العجز على الصدر) اللفظية والإيقاعية معاً، ومنه قول معروف الرصافي:
حتى رجال الصين تحترم النسا
أفنحن أفضل من رجال الصين!
ولا أدري ما علاقة الصين تحديدا، وهل أشيع أن الصين لا تحترم النساء لكي يثبت لنا الرصافي اكتشافا جديدا؛ والحق، كما أرى، أن الرصافي بصدد قافية (نونية) فجعل الصين ضمن جدول قوافيه قبل كتابة القصيدة!
وهو الأمر الذي وقع فيه الجواهري، أعني استحضار القافية قبل البيت، وهو ما أشار إليه أستاذي العلامة د. محمد حسين الأعرجي في كتابه (الجواهري – دراسة ووثائق) وكان الأعرجي رحمه الله يحسب تلك ميزة للجواهري بأنه يكتب القوافي في ورقة قبل البدء في بناء قصيدته؛ وهنا لي أن أختلف مع أستاذي الأعرجي رحمه الله، كما اختلفت معه في حياته، بقناعته ومحبته، لأن لا جزم ولا حسم في النقد وهذه ميزة تجدد الأسئلة والأسئلة حياة؛ واختلافي مع د. محمد حسين الأعرجي هو في كون الجواهري بصدد القصيدة كلها أم في صدد القافية المكتوبة قبل القصيدة؟، من يحكم من؟، البيت وبوحه الشعري أم قافيته المكتوبة قبل الشروع بالقصيدة؟.
أقول هذا لأن الحيلة الإيقاعية خدعت جميع من قرأ قصيدة الجواهري الخالد (دجلة الخير) وإلّا ما الذي أجبر الجواهري للركض باتجاه القافية في مطلع (دجلة الخير) وقبل أن تشح لديه القوافي؟.
حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير..
يا أم البساتين
أحسب لو كان الجواهري حرا من القافية لقال أم النوارس، ونوارس دجلة أشهر من بساتينها؛ والبيت في الحالين انتهى بـ (دجلة الخير) وأم البساتين.. ليست سوى ركض باتجاه القافية، فإذا عرفنا أن القصيدة كتبت في (براغ) فهل براغ خالية من أي بستان؟.إنه سجن القافية ونسق التجسير للمتلقي.