لا يوجد عراقي وطني نزيه وشريف لا يحزن ويأسف لما وصل إليه حال وطنه وشعبه في هذا الزمن الرديء الذي يتطاول فيه على سيادته وكرامته ووحدة أراضيه من هب ودب. حتى لم يعد يملك ما يفعله لتعديل الحال سوى الثورة التي لا تهدأ إلا بعد خلاص نهائي وناجز وشامل من كل هذه الزمر الفاشلة الفاسدة المتواطئة مع أعدائه الشرقيين والغربيين على حد سواء.
وتعليقا على صواريخ الحرس الثوري الإيراني ومسيَّراته المرسلة إلى أربيل، تحديدا، فليس لها سوى معنى واحد، هو أن النظام الإيراني الذي وضعته الثورة الإيرانية الشعبية المشتعلة على كل التراب الإيراني في مأزق حقيقي صعب يحاول جعلَها حركة كردية انفصالية، وحصرَها في مدن كردستان إيران المحاذية لكردستان العراق، وتحميل الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني مسؤولية إمدادها بالرجال والمال والسلاح.
ولا يدل لجوء حزب أربيل إلى التهديد بطلب الحماية الدولية ردا على الهجمات المدفعية والقصف بالطائرات المسيّرة المفخخة التي تبنّاها الحرس الثوري الإيراني إلا على ضعف الحيلة وقلة التدبير.
فقد أعلن القيادي في الحزب، نائب رئيس البرلمان الاتحادي العراقي، شاخوان عبدالله في تصريح لوسائل إعلام تابعة لحزبه “إذا استمر ضعف الحكومة الاتحادية بهذه الطريقة، ولم تتمكن من حماية سيادة البلاد، فإن جميع الأبواب مفتوحة أمام حكومة إقليم كردستان، بما فيها الطلب من المجتمع الدولي حماية الأرض والأجواء، عبر القنوات الدولية”.
كل ما فعلته الولايات المتحدة، رغم مقتل مواطن أميركي بهجوم الحرس الثوري على كردستان العراق بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، هو أنها شجبته بقوة، ووصفته بأنه “انتهاك غير مبرر لسيادة العراق ووحدة أراضيه”
وينسى أن الذي فتَّ في عضد هذه البلاد وجعلها أرضا مشاعة لمن هب ودب هو من ارتضى أن يغدر بأهله، ويتعالى عليهم، ويستقوي بأعدائهم، ويتوهم بقدرته على فرض إرادته، وهو الصغير، على اللاعبين الكبار.
سؤال. ماذا عن صمت حلفائه القدامى من أيام المعارضة العراقية السابقة، وشركائه في ائتلاف إدارة الدولة الحالي، وهم يرون أطفال المدارس الصغار ونساء المزارعين يتقافزون هربا من نيران وليهم الفقيه؟
في 30 تموز/يوليو الماضي فوجئ العراقيون بصاروخ أطلقه مجهول على منتجع سياحي في دهوك، وقبل أن يَنتظروا تحقيقا مهنيا غير مسيس لتحديد الفاعل، ورغم نفي الحكومة التركية الفوري مسؤوليتَها عن الجريمة، واتهام وزير خارجيتها حزبَ العمال الكردستاني بتنفيذ الضربة، هاجت الساحة العراقية وماجت، وعلى الفور، اشتعل قادة الأحزاب والكتل والفصائل والحشد الشعبي غضبا، وتداعوا إلى إجراءات انتقامية (تأديبية) حكومية وحزبية وشعبية غير مسبوقة ضد تركيا، حتى لم تبق فضائية ولا إذاعة ولا جريدة ولا حسينية إلا وراحت تترحم على أرواح ضحايا الصاروخ، وتتفنن في البكاء على السيادة الوطنية المنتهكة، وتطالب بغلق السفارة التركية، وتقديم شكوى عاجلة لدى الأمم المتحدة، وهو صاروخ واحد قد يكون تركيّاً، وقد لا يكون.
أما اليوم، وقد أعلن الحرس الثوري، بشمم ودون خوف ولا حياء، عن قيامه بقصف كردستان العراق بسبعين صاروخا وبعدد من المسيّرات، وتوعد بالمزيد منها، فإن بعضا من سكان البيت الشيعي العراقي صمت صمْت القبور، والبعض الذي تكلم طالب بالدليل على سقوط ضحايا مدنيين، وبرر العدوان بالدفاع المشروع عن النفس.
وبالمناسبة، لقد تزامن إرسال حزمة صواريخ الحرس الثوري إلى أربيل، تحديدا، مع الذكرى الخامسة لاستفتاء كاكا مسعود بارزاني على الانفصال.وبهذه الذكرى العزيزة على قلبه خطب الرئيس وأعلن، بشجاعة وكبرياء، أن الشعب إذا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، وهدد، بعنفوان وجبروت، بالصعود إلى الجبال، ملوحا بالكنفيدرالية التي لا تقوم إلا بين دولتين مستقلتين.
ولكنه بعد أربع وعشرين ساعة تلقى صواريخ الشقيقة المجاهدة فلم يجد ما يرد به على هذا العدوان الغادر، وعلى تهديدات الحرس الثوري بالمزيد منها، سوى أن يهدد باللجوء إلى طلب الحماية الدولية “إذا لم ترتدع ولاية الفقيه وتأمر بوقف هذا العدوان الغاشم على السيادة الوطنية العراقية”، قبل فوات الأوان.
فقد سأل حزب جماعة أربيل حلفاءه في ائتلاف إدارة الدولة الجديد “هل ستسكتون لو أن دولة أخرى قصفت بغداد بحجة وجود لاجئين عزّل من تلك الدولة فيها؟”، ثم قال لهم إن “قبول التدخلات الخارجية وانتهاك السيادة مسألة مبدأ، وعدم السماح لدولة ما بالتدخل لا يعني السماح للأخرى”. ثم ذكّرَهم بأن “الوطنية ليست شعارات”.
والحقيقة هي أن عدوان الحرس الثوري كان يمكن أن يتلقى الرد الحازم والحاسم الأبيّ الشجاع دفاعا عن السيادة الوطنية العراقية المقدسة فقط لو أبقى قادة العملية السياسية الشيعة والسنة والكرد سيادة حقيقية لكي يدافع عنها العراقيون.
وكان على القادة الكرد، قبل أن ينزعجوا من سكوت شركائهم في المحاصصة، أن يستحوا هم، أولا، ويُطأطئوا رؤوسهم اعتذارا لشعبهم الذي خدعوه بشعاراتهم القومية الفارغة، ووعودِهم له بالحرية والاستقلال، ومُباهاتهم بعضلات حلفائهم الأميركان والإسرائيليين والبريطانيين والفرنسيين.
وكل ما فعلته الولايات المتحدة، رغم مقتل مواطن أميركي بهجوم الحرس الثوري على كردستان العراق بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، هو أنها شجبته بقوة، ووصفته بأنه “انتهاك غير مبرر لسيادة العراق ووحدة أراضيه”، رغم أن اتفاقية الدفاع المشترك لم يجف الحبر الذي كتبت به، ورغم وجود عساكر الأميركيين في عقر دار الرئيس بارزاني.
أما الموقف البطولي الشجاع الذي وقفته وزارة خارجية كاكا فؤاد حسين، فهو إقدامها على استدعاء سفير الشقيقة الكبرى إيران، وتسليمه مذكرة احتجاج (شديدة اللهجة)، وكفى الله المؤمنين شر القتال، فالعين بصيرة واليد قصيرة أمام الجنرال إسماعيل قاآني وأحزابه العراقية وميليشياته التي لا ترحم.
طبعا، لن يتوقف الحرس الثوري عن قصف قرى الإقليم ومدنه حتى تتوقف انتفاضة الجماهير الإيرانية المشتعلة على كامل التراب الإيراني، لكي يقول بأن هذه الثورة العفوية الشعبية العارمة التي أكملت يومها الرابع عشر هي من صناعة المعارضة الكردية الإيرانية المتخفية في جبال كردستان العراق.
ويعتقد محللون عراقيون بأن هذه الصواريخ والمسيرات رسائل مشفرة مرسلة إلى مسعود بارزاني، تحديدا، لتطلب منه أن يتوقف عن استعراض العضلات، وبأن يعود إلى أحضان الإطار التنسيقي في بغداد، حليفا راضيا مرضيا، كما كان.
