منذ عقود تدور السياسة بين أربيل والسليمانية في كردستان العراق ضمن حلقة مفرغة قوامها النزاع والوساطات الخارجية لفض النزاع والوئام المفروض المنفعي والقسري والظاهري، ثم النزاع ثانية والتدخلات الخارجية، ثم التصعيد الإعلامي وهكذا دواليك. وفي حالاتٍ كثيرة تنتهي هذه المعمعة إلى عسكرة الخلافات والتلويح بشن مواجهات طاحنة تجرف معها آمال الملايين من الكُرد إلى مزابل القادة والساسة الذين تذكرهم هذه الأجواء بإرثهم الماضوي البغيض وتُعيدهم بشغف والتياع إلى المربع الأول من جحيم الخزي والعار، أي احتراب الإخوة الأعداء.
خصومة بين الكرد والسياسة
من يتابع مسيرة السياسة في كردستان العراق لا بُدَّ أن يصاب بالذهول وتتملكه الدهشة بسبب الاكتشاف غير المضني وغير المشرّف بأن صور السياسة وتطبيقاتها غير الرشيدة لقادة الإقليم ما زالت تتكرر وتتكاثر منذ عقود ولم تبارح البتة قعر ذات المستنقع الآسن الذي يأبى على الجفاف. وهذا ما يؤدي إلى الاستنتاج بأن هناك خصومة تاريخية أزلية متأصلة ومتجذرة بين الكُرد وبين فهم السياسة والتعاطي معها على أساس أنها علم وفن وحرفة. وبالتالي العجز عن تبني نموذج عصري ومشرق ومشرّف في الإدارة والحكم لحماية المكتسبات الحالية وتطويرها لبلوغ صيغ أرقى لطالما راودت مخيلة الكُرد ودغدغت مشاعرهم، وكذلك للمباهاة به من قبل الكُرد في الوطن والشتات وللإشادة به من قبل الآخرين.
لكن في خضم هذا المشهد الدراماتيكي السريالي الذي يوحي بالانحدار والسقوط في قعر الهاوية والتربع على عرش الانحطاط دون منازع، تتبادر إلى الذهن أسئلة من قبيل: هل القادة الكُرد في أربيل والسليمانية سعداء بتربعهم على عرش الانحطاط السياسي وعجزهم المزمن عن تقديم نموذج معاصر ومتحضر في الحكم والإدارة بحيث يتواءم قليلا مع حجم التضحيات الجسام التي قدمها الكُرد على مر تاريخهم الحديث والمعاصر ويستطيع مقارعة التحديات والصمود والبقاء ضمن نظام دولي فوضوي؟ وهل القادة الكُرد قادرون على إنتاج نموذج عصري ومتحضر في الحكم والإدارة مغاير للسائد البائس ولم يقدموه عن سابق قصد وإصرار؟
مرة أخرى وليست أخيرة ينجح الكُرد ببراعة في إثبات، وبالأدلة الدامغة، أن دورهم في إيذاء قضيتهم وتعريض مكتسباتهم للتقويض والاندثار يضاهي أدوار الخصوم المتربصين بهم من كل حدب وصوبجواب السؤال الأول يميل إلى الإيجاب، وإلا فإن الرعاة السياسيين كانوا سيقدمون ذلك النموذج المنشود والعتيد منذ أمد بعيد. لكن المصيبة هنا تكمن في عدم اعتبار قادة الإقليم البؤس السياسي السائد والمهدد بمسح ما هو ناجز بالانحطاط، لا بل بالازدهار طالما أن هناك أسرابا من الأتباع والمريدين والعبيد الطوعيين يصفقون لهذا الازدهار (الانحطاط) ويمجّدونه. وهذه الظاهرة يسميها برتراند راسل “بالجهل المقدس”. وهذا في حد ذاته مرض عضال آخر يُضاف إلى سلسلة الأمراض المزمنة التي يكابدها قادة الإقليم، أي عدم الإحساس بالأمراض السياسية والنفسية التي يعانون منها، وبالتالي عدم الاعتراف بها أو الخجل منها، لا بل الافتخار بها.
من المتعارف عليه أن تشخيص المرض العضوي أو النفسي هو الخطوة الأولى في طريق العلاج، هذا إذا كان المرض قابلا للعلاج. لكن ما يسبق التشخيص هنا هو الإحساس بالمرض واقتناع المريض بأنه مريض وفي حاجة إلى كشف سريري قد يستتبعه كشف مخبري موسع ومتعمق لتشخيص المرض وإيجاد الترياق الناجع، بطبيعة الحال إذا كان المرض بالأساس قابلا للمداواة.كل عقل سياسي نخبوي يلحق الأذى بقضيته الجمعية عن عمد هو عقل مريض. وذروة المرض تكمن في عدم اعتراف أصحاب هذا العقل بالمرض، رغم استشرائه وبلوغه درجة الوباء، لا بل في عدم إحساسهم بالمرض، على الرغم من أعراضه الحادة والمزمنة الفتاكة. وهذا في حد ذاته مرض آخر أكثر خطورة من المرض الأساسي لأنه يحيل إلى حالة تشبه الشلل الذي يُفقد المصاب الإحساس والخجل والتمييز، ويرغمه على التأقلم مع السيء والأسوأ حتى يتراءى للمصاب بأن هذين الخيارين، أي السيء والأسوأ، هما المتوفران فقط دون غيرهما.
بالنسبة إلى السؤال الثاني، فإن المعطيات السوداوية الطافحة توحي بأن الكُرد عاجزون عن تقديم ذلك النموذج المنقذ القابل للحياة. ويمكن القول إن القادة الكُرد في أربيل والسليمانية ليسوا مهتمين، أو في وارد بناء ما يمكن تسميته بنواة الدولة أو بتشييد أركان الحكم والإدارة على أساس علمي ومؤسساتي بعيدا عن العشيرة والعائلة والتحزب والمناطقية. ولا تندرج هذه المهمة ضمن أولوياتهم. في هذا السياق، يقول السياسي الكردي المخضرم محمود عثمان “لم تعد هنالك قضية كردية تدافع عنها الأحزاب الكردستانية المختلفة. إن القضية الكردية التي ناضلت من أجلها الأجيال وقدم الآلاف من البيشمركة أرواحهم لانتزاع حقوق الشعب الكردي اختزلت اليوم بالمناصب والامتيازات فقط”.
إن جُل تركيز القادة في أربيل والسليمانية منكبّ ومنصبّ حول استمرار الوضعية الراهنة التي تخدم مصالح المتنفذين من الطرفين، واستمرار ما يمكن وصفه بحالة المدينة الدولة التي كانت سائدة في عصور ما قبل الميلاد في بلاد الإغريق. لكن “المدن الدول” في اليونان القديمة مثل أثينا وإسبرطة وغيرهما كانت على الأقل تتحد فيما يتعلق بتعريف الخطر الخارجي والتصدي له، على عكس الكُرد في إقليم كردستان العراق.
فالبارزانيون يعتبرون الاعتداءات الإيرانية خطرا على استقرار الإقليم، بينما لا يعتبرون الاجتياحات والاحتلالات التركية لأراضي الإقليم خطرا مماثلا، والعكس هو الصحيح بالنسبة إلى الطالبانيين حيث يغضون الطرف عن إرهاب الدولة الإيرانية ضد الإقليم فيما يبدعون في شجب إرهاب الدولة التركية ضد الإقليم. وهذا ما يشي بأن السلام الدائم بين أربيل والسليمانية لن يسود حتى في حال انشطار الإقليم رسميا إلى إقليمين، علما أنه واقعيا مقسّم إلى إقليمين منذ 1991. ويبدو أن لعنة العجز عن إنتاج نموذج حديث ومعاصر في الإدارة والحكم ستدوم لسنوات وعقود قادمة لانعدام مقومات النهوض والبناء وتفاقم العكس والأضداد بما أنه لا بديل للرعاة الحاليين ولا يمكن استيراد رعاة وقادة جدد من أصقاع أخرى في كوكب الأرض أو من كواكب أخرى تكون قادرة على إنتاج ما يتناسب مع مفهوم الدولة الحديثة ومقتضيات العصر.
تعاط بدائي مع السياسة
هذه القتامة الغارقة في الدكنة والمصبوبة من الشؤم والشقاء تحيلنا إلى تسليط الضوء على حيثية بالغة الأهمية وهي كيفية تعاطي القادة الكُرد في كردستان العراق مع السياسة على أساس أنها ليست علما ولا حرفة ولا فنا، وإنما جاه وامتيازات ومناصب بالوراثة.في المحاضرة المعنونة “السياسة بوصفها حرفة” والتي ألقاها الفيلسوف الألماني ماكس فيبر سنة 1919 في جامعة ميونخ يوضح أنه يجب على السياسي التعاطي مع السياسة على أساس أنها حرفة بما أنها علم مثل سائر العلوم الأخرى لكي تؤتي أُكلها. ويخلص إلى الاستنتاج بأن السياسي الناجح والناضج هو الذي يصلح أن يكون رجل دولة لجميع الرعية وليس رجل حزب أو فئة معينة.
جُل تركيز القادة في أربيل والسليمانية منكبّ ومنصبّ حول استمرار الوضعية الراهنة التي تخدم مصالح المتنفذين من الطرفين، واستمرار ما يمكن وصفه بحالة المدينة الدولة التي كانت سائدة في عصور ما قبل الميلاد في بلاد الإغريق ويرى فيبر بأن القادة الحقيقيين هم من يعملون على بناء أركان الدولة ومفاصلها ومؤسساتها التي تعمر لعقود وقرون وخدمةً للأجيال القادمة ولا تتهاوى لمجرد تبدل الحكام. ويشاطره هذا الرأي السياسي الألماني فريدريك نومان حيث يقول “إن ما يجعل برأينا السياسي المحترف يقوم بعمل شاق.. وبعمل مليء بالتضحية مع ما يعتريه من خيبات أمل، ليس إلا الإيمان بأن الاشتغال في الدولة هو مصلحة عامة بالدرجة الأولى”. وهما بذلك كانا يحاولان دحض مزاعم خصمهم الفكري، عالم الاقتصاد والاجتماع الألماني فيرنر سومبارت الذي كان يعتقد بأن جميع السياسيين المشؤومين في زمنه تحولوا إلى “نوع من الصناعة المخزية” الذين لطالما أنتجوا “خواء عقليا، وكذبا أخلاقيا، وفراغا فنيا” حتى أصبحت السياسة “فنا مخيفا مزيفا”. النموذج الذي تحدث عنه سومبارت في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى هو السائد والمهيمن على مقاليد الأمور في كردستان العراق.
لا ديمقراطية ولا مستبد عادل
النخب العشائرية والعائلية الحاكمة في إقليم كردستان العراق والموضوعة ضمن أطر حزبية شكلية أخفقت في نقل كردستان من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، وبقيت تحكم كردستان وفق عين المنهج والمنطق السائد أيام النضال على الجبال، الأمر الذي لا يستقيم مع منطق العصر وروحه بغض النظر عن صحته أو خطئه. وما زاد الطين بلة هو المال الذي بدأ يتدفق على قادة الإقليم منذ 1991 وحتى 2003 مما خلق مشهدا غير مسبوق في الفساد من الأعلى وإلى الأسفل. وهذا بدوره دفع الجميع بمن فيهم أصدقاء الكُرد إلى الاستنتاج بعدم وجود خبرة كردية في الحكم والإدارة وانعدام القابلية لاكتساب تلك الخبرة على الأقل في المدى القريب والمدى المنظور، حيث عجز الكُرد عن بناء ما يمكن تسميته بدولة (فيدرالية) المؤسسات والقانون وتبني الديمقراطية، أو حتى في الإتيان بالمستبد العادل أو بالمستبدين العادلين، علماً أن الاستبداد والعدالة نقيضان على الصعيدين النظري والعملي وقلّما يلتقيان ويتوافقان.
المعضلة بين أربيل والسليمانية لا تكمن في وجود الخلافات والمنافسة، فهذا أمر اعتيادي وشائع وحيوي في عالم السياسة والسلطة، وإنما في طبيعة الخلافات والمنافسة وتفاصيلهما التي تدور جلها حول المنافع والامتيازات الحزبية والفئوية، وليس حول حاضر الإقليم ومستقبله وشعبه والأزمات التي يمر بها. بالإضافة إلى الجنوح الجارف نحو عسكرة الخلافات والاحتكام إلى لغة السلاح والعنف لحسم الخلافات، بما أنه لا وجود لأيّ دور لمؤسسات ومحاكم وقضاء الإقليم الشكلية، ومن ضمنها وزارة البيشمركة التي لا حول لها ولا قوة، وبما أن ولاء البيشمركة وانتماءها هو للقائد والعشيرة والحزب أولا وثانيا وأخيرا. وقد سبق للطرفين أن خاضا ضد بعضهما البعض حروب الإلغاء لأكثر من مرة في الماضي القريب وبالاستنجاد ببغداد وطهران.
مرة أخرى وليست أخيرة ينجح الكُرد ببراعة في إثبات، وبالأدلة الدامغة، أن دورهم في إيذاء قضيتهم وتعريض مكتسباتهم للتقويض والاندثار يضاهي أدوار الخصوم المتربصين بهم من كل حدب وصوب، إن لم يكن أكثر ضرراً وإيلاماً في الكثير من الحالات والمراحل. وللمرة الألف يبرهن الكُرد بأن هناك سوء فهم موغل في القدم بينهم وبين السياسة والتعاطي معها على أساس أنها علم وفن وحرفة، وبأن ذاكرتهم أضعف من ذاكرة السمك، لا بل وكأنهم فاقدون للذاكرة، ولا يستفيدون قيد أنملة من الدروس المستفيضة التي يحفل بها تاريخهم المأساوي. لذلك فالتاريخ بالنسبة إلى الكُرد يعيد نفسه مرتين كما يقول ماركس “مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة”، وما نشهده هذه الأيام هو المهزلة التي تذكرنا بأقصى درجات الحضيض وتهددنا بالسقوط والانحدار إلى قعر الهاوية التي ألفناها وألفتنا.