مع التغيرات الجذريةِ التي عمت العالمَ على مستوى النظم الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية، لازمت المجتمعات حالة من خلخلة الثوابت والقيم والخمود في مستوى المعرفة ونوعها، ولم تستطع الثقافة تغطية هذا الخمود؛ مع أنها اتسعت وتنوعت. بمعنى أن التفكيرَ الجذري تراخت عراه، على الرغم من سهولة الحصول على المعرفة كما ونوعاً وحيازة؛ وظهرت شروخ أخلاقية ونفسية وتشظ في البُنى الاجتماعية، وتفاقمت حالات الاغتراب.وتساوق مع هذا تراجعُ الفلسفة المدرسية أمام كشوفاتِ العلوم الصرفة التي استطاعت الإجابة على الكثير مِن أسئلةٍ شغلتْ الإنسان طِيلة قرون مضت. لكن العلومَ الصرفة بُعدها ماديٌّ؛ وأفقُها لا تطال الكثيرَ مِن مشكلات الإنسان ذات الإطار النفسي والأخلاقي والاجتماعي؛ فظهرت اهتزاز في القيمة، وتراخت المعايير الحضرية التي رسّختها خبرةُ تلك القرون.
ومن جانب آخر فالأديان فقدت الكثير مِن عناصر تأثيرها الايجابي؛ لاسيما على المستوى الأخلاقي والضبط السلوكي الذي حكم العلاقات البشرية.ومن جانب آخر وقعت موضوعاتِ الأدب تحت تأثرت هذا الطوفان؛ سواء على مستوى العاطفة والجمال أم على مستوى الفِكر؛ ولم تعُدْ قادرة على ردم الهوّةِ الثقافية التي يعاني منها الإنسان، وكادت أنْ تفقدَ الصلة به، وإذا كان إلغاءُ الذاتِ قد تشكّل في قلب البنيوية فلأنها تطورت على وفق استراتيجيات يلتقي أصحابُها عند فكرةٍ التخلِّي عن نوعين مِن الأوهام هما «النزعة الإنسانية والفكر التاريخي، باسم التقدمِ العلمي، والتحرّر من أوهام الميتافزيقيا». أما ما بعد البنيوية فردٌّ معقدٌ على إخفاق البنيوية في إحداث تماسك ضمن نظرية عامة في العلوم الإنسانية «. وهذا ما دفع جارودي إلى القول: إنّ مفهوم البنية فلسفةً بلا ذات وتنتهي إلى موت الإنسان»، وتشيّيئه، ومعنى هذا أنّ البعدَ الإنساني فيها مختل، ونابع من اعتمادها على فلسفات هيدجر فمنذ كتابه الوجود والزمان نمت نزعة تجاوز الذات والحثّ على مناهضة النزعة الإنسانية. والتبرير الذي قدمه يقوم على أنّ النزعة الإنسانية ميتافزيقية، والميتافزيقا نسيانٌ للوجود!
إن السعيَ وراء الفهم الشامل في الفلسفة لا يخدمه تفانيها في التجريد؛ هذا إذا وجدتْ لها موضوعات تكافئ استدلالات العلم، وتتجاوز انكفاءها على مجال اللغة والبنية ومداهنة العلم. «وتعطي إيريس مردوخ صورةً لهذا الخلل، مبيِّنة أنَّ الفلسفةَ الحديثة لديها مشكلةٌ لا تستطيع تجاوزها؛ فالتفاني في صرامةِ التحليل يدفع بالفلاسفة إلى تجاوز اهتماماتٍ هي بالأصل هدفَ تحقيقاتهم. وينتج عن هذا ميلاً إلى جعلَ الفلسفةَ ملكية حصرية لعددٍ مِن الأفراد مهتمين بقضايا منفصلةً عن الأغلبية». في وقت يكون الإنسان بحاجة إلى انتفاضة في تجدد أفق المعرفة مُتسارعة النمو، ومن هنا أتت محاولاتُ العودةِ إلى بديل عن الفلسفة المدرسية لرأْبِ الصدع في القيمة المعرفية؛ فعاد الأدب الفلسفي يلقي بثقلِه لاسيما في الرواية. وعلى حد نعوم تشومسكي فـإن «من المحتمل أننا نستطيع أنْ نتعلم أشياء عن حياة الإنسان وشخصيته من الروايات أكثر مما نتعلّمه عنها من علم النفس، وهذا ينطبق على الفلسفة وعموم الثقافة. إذ « يمكن النظرُ إلى الأعمالِ الأدبية على أنها طريقةٌ أخرى لرؤية الجوانب التي لم نتمكّن من رؤيتها في عالم الواقع. وبصرفِ النظرِ عن هذه المرايا الأدبية التي تعيد انعكاساتنا لتظهر لنا أنفسنا، فللأدب تأثيرٌ تحوّليٌّ على وعينا الذاتي، وبهذا المعنى تجلٍّ يتخطّى التمايز بين الخيال والحقيقة».
ويرى مارتن وارنر في كتابهِ Philosophy of Literature أنه على مدى السنوات الماضية كانت العناية بالأدب الفلسفي واضحة، و “هو في الوقت الحاضر ينتشر بسرعة ويصبح أكثر تأثراً. وإذا كانت النظرة الأفلاطونية قد استمرت في موقفها السلبي من كون الأدب ذا بعد معرفي، فاليوم أصبح الأدب والفلسفة متّحدان. ويؤكد وارنر على أنَّ السرد ليس هو ما يحدِّد الفلسفة في الأدب، بل يمارسها، والتطور الأخير في فلسفة اللغة يمكِّننا من رؤية مفادُها: أنَّ الأدب ليس بعيداً عن تقديم الحقائق، ولا ينبغي إبعاده من مدينة الحقيقة؛ على النسق الأفلاطوني». وهذا ما يجد لدى أرسطو دعماً في اعتبار الأدب أثبت من التأريخ، وله القدرة على التأمّل والدفع نحو الوعي، ولابد من الإشارة إلى هذا القرن «قد شهد اعترافاً من الفلاسفة ودارسي السينما بأنّ أفلاماً متنوعة الأنماط تستحق الاهتمام الفلسفي، وهذا الاعتراف ينبع من النزعة المتزايدة لتقديم الفلسفة من خلال الأفلام، لأنّ الوسائط البصرية أقرب إلى متناول الناس من الوسائط المكتوبة، وأدركوا أنَّ الطلبة يمكنهم التوحّد مع الموضوعات الفلسفية عندما تُقدّم سينمائياً، أكثر من الطرح الفلسفي البارد، وهذا يعني أنّ الأفلام أصبحت تُصنع بشكل مضمون فلسفي واع بذاته، ويمكن أنْ نتوقعَ أنَّ هذه الحقيقة ستُحدث أثراً على الفلاسفة ودارسي السينما». معاً. فالعلم على سبيل المثال يتحوّل إلى الفلسفة عندما يسأل أسئلة حول ممارساته، مثل: ما التفسير؟
وهذا يجعلنا نفهم لماذا فيلم «ماتریکس» (1999) مثلاً جيدٌ ويثير مشكلة فلسفية؟ الجواب: لأنه يجسّدُ فرضية الشك الجذري. وتجسيده لتلك الإمكانية أدى إلى قدر كبير من المناقشة بين الفلاسفة. وهناك أفلام أخرى أثارت مسائل من مثل فيلم الختم السابع (1965) الذي يتساءل عن وجود الله، وكيف يصبح الإيمان ممكنا في عالم يعمّه الشر، أو تطرح أسئلة فلسفية مثل ما جدوى أنْ يكون المرء أخلاقياً. بينما تمثل مسلسلات من مثل Raised by Wolves و The dark، انعطافا مؤثراً على مدركات الناس الذين تعاملوا معها بشغف، دون الشعور بملل الصرامة المنطقية وغياب الأخيلة، وهي تصف صراع الإلحاد والعلم على حقائق الوجود؛ دون التحيّز لأيِّ نسق منهما، بل تركز على الهشاشة الأخلاقية القابعة في كلاهما.
وقد وجدت الرواية الفلسفية (بوصفها عماد الأفلام) جدواها وضرورتها، ولا يصرفها عن هذا أن يأخذ البعض عليها كونها عملا تجريبياً؛ للأسباب التي تطرقنا إليها آنفاً. لاسيما وأنَّ الأدب الفلسفي بعمومه صار يَلقى دعماً فائقاً، والدراسات الحديثة لعلم الأعصاب وعلمي الجمال واللغة يجمعون على ما للاستعارة والخيال من قيمة موازية أحيانا للإدراك المنطقي؛ من حيث الانتشار والتلقي. وقس على ذلك ما تقدّمه القصة الفلسفية.ولنأخذ مثالاً من السينما الحديثة: “لقد بدل غودار السينما، وأدخل عليها الفكر، وهو لم يطبّق الفكر على السينما، بل جعل السينما ذاتها تفكّر. ولأول مرة بإمكاننا أن نمارس النقد في فيلم كانط أو سبينوزا، ولن يكون ذلك فلسفة تجريدية، بل تطبيقاً عمليا لها، من خلال العثور على وسيلة جديدة.. على «صورة»، الأمر الذي يفرض بالضرورة مضموناً ثورياً.