ياسين طه حافظ
هكذا عادة يتساءل الشعر، وهكذا أيضاً تساءل الفكر. وللنتيجة النهائية استسلم الإنسان العادي وتآلف أو ارتضى مرغماً ومقراً أن هذا هو الحل. لكن الأخطار الداخلية وما يكتنف الطريق وسالكه من متناقضات أو مفاجآت هذا الطريق لا تترك الاستقرار ولا تترك المخيلة بسلامهما وائتلافهما كل المعطيات المتخيلة عرضة لضربة برق أو اصطدام أو مواجهة تسقط السلة من يد المُزارِعة وتسقط السلاح من يد المقاتل ولا من أحدٍ يواجهه!، المخيلة صَكّها حجر أو صوت أو صورة طارئة أو ذكرى.
هو هذه الطريق من التراجيديا إلى الكوميديا ومن الكوميديا إلى التراجيديا وبينهما قلق الحالين.الابتهاجات الروحية قد تدمرها جسدية والعكس وارد ومشهود.وما يفرّع الطريق ويضيع ملامحها، أن ليس دائماً شخصيات الظفر تحضر بظفرها ولكن تظهر على مستوى الحلم، وقد يختلطان ويعيشان معا.وأظن اغلبنا كذلك.والشعراء والفنانون هم الأكثر ضياعاً في هذا الجو ذي المضمون المختلط أو المشترك.ما يقوله تاريخ الإنسان، إنه كلما تقدم في تحضره، اشتبك بالمتناقضات، كلما اختلط الحلم عنده بالحقيقة وكلما «مشت الأمنية معه في الشارع» مثل أي رفيق عزيز أو حاجة دائمة.
لكن حقيقة أخرى، هي أيضاً سبب إشكال أو لا حل. ذلك ان الإنسان يريد غير ما يملك، غير ما ألف، يريد أيضاً أن يرى جديداً ويهرب مما قيّده.وأيام الأسبوع المضجرة التي تتكرر ولا نهاية لها، تحرّضه على الانطلاق من نقاط لامعة يراها أو يتخيلها أو يرسمها بنفسه، كالأعياد واصطناع المناسبات.وحين لا يرى ما يقنع ويكفي يتنقل من هذه الحال إلى تلك، وهو بحاجة دائمة للاثنين.
يقول الحريري يصف البصرة:
فصِلْ إن شئتَ فيها من يصلي
وإما شئت فادنُ من الدنانِ ..
كيف يستقر إذاً؟
السؤال الصواب ليس ذاك.
هو: لماذا يستقر، وأين هي الحياة في هذا السير القلق والتنقل واشتباك المرغوب بالمطلوب ام بالوقوف في التقاطع وافتقاد كل الجهات للمعنى؟في حديث مثل هذا لا بد من أن نفصل بين الإنسان العادي وبين الإنسان الذي اصطلحنا واتفقنا على تسميته أو وصفه بالبطل.
«البطل هو ذلك الإنسان، رجلاً أو امرأة، الذي لديه القدرة على أن يكافح متجاوزاً من خلال حدوده الشخصية والتاريخية المكانية في سبيل الأشكال الإنسانية التي تتمتع بالصلاحية المطلقة..».
هذا مستوى آخر من الكلام، وهذه الأفكار لها صلة بالمصادر الأولى للحياة والفكر الإنسانيين.وهي ليست أفكار الناس في الشارع والعمل.. نحن حديثنا عن الإنسان اعتيادي من خلال ما اعتاد وما يحيط به يريد أن يعيش راضياً أو مرضياً بين الحاضر والمتمنى.حديثنا كان وما يزال عن الإنسان في طريقه من التراجيديا إلى الكوميديا ومن الكوميديا إلى التراجيديا ودرجات كثافتيهما أو مواصفاتهما.هناك الإنسان معني بالمطلقات وهنا الإنسان معني بالجزئيات التي تسر وتشبع وتمنح سكينة أو تربك الحركة والكلام.
ثمة اختلاط آخر يعيد ترسيمة الأشكال ويضعنا في حال استمرار إعادة الرؤية أو اهمال كل شيء والاستمرار في الطريق، ذلك هو أننا شخوصاً نتحول إلى مصانع صغيرة للصور المختلطة. فالأفراح مختلطة بسواها والمقلقات وانتظاراتنا، ونحن كأن خلقنا لنعيش في توالي التفاصيل.وبسبب من «ما هو موجود» ومن انقطاع الغوث أو الحل، يسلك الملايين على الأرض الطريق الا وهي صلةً بالمغامرة ويعيشون في سلام التقاليد واستقرارها، لكن الصفة التي يطلقها الفكر اليوم على أمثال هؤلاء أنهم «المضيعون» فهم في حال الملاذ اليومي، في ظل الدائم، سمه المقدس، أو الأبدي.أولاء مجاميع بشر مسالمون أو طلبة رزق دائماً بانتظار مانحي الرحمة.
شخصياً لا أرى السلبية هنا صفة اولى فثمة ادراك لعبثية الكون وسعته وضعفهم وحيرتهم فيما وُجِدوا فيه.فهم على فقرهم بشر، أصناف من بشر لم يروا، لم يجدوا، لم يقتنعوا بجدوى.أظننا مهما حاولنا أن نجد جهة تُرضي ونلوم ونقلل من شأن أخرى، سنظل جميعاً نمشي في الطريق نفسها، وكلٌّ له ما يرضيه ما دام حياً وما دام يرى. لكن هذا لا ينسينا أن آلافاً من البشر في العالم، بسبب هذا اللا وضوح أو اللا طريق وعدم الرضا، يهربون من هذا المكان إلى ذاك ومن ذاك إلى هذا وعيونهم تتساءل: وماذا بعد؟، أظننا من هؤلاء!.