عفاف مطر
إذا كنت تعتقد أن من يتحكم اليوم في العلوم والثقافة والتجارة .. الخ هم الأكثر كفاءة فأعلم أن مؤلف كتاب (نظام التفاهة) الفيلسوف الكندي آلان دونو لا يتفق معك، لأنه يعتقد أن العالم سقط بين أيدي التافهين. قد يتبادر الى ذهن القارئ أن المؤلف يتحدث عن مجموعة من التافهين الذين يحتلون مكانة مهمة ولهم القدرة على التأثير، لكن وبعد قراءة الكتاب سيتبين له أن الكتاب لا يتحدث عنهم ويعتبرهم مجرد نتيجة حتمية وطبيعية لنظام كامل، وقد يتفاجئ أنه يتحدث عن علماء ورؤساء شركات وخبراء أي شخصيات ليست تافهة أبداً. من يقرأ الكتاب أيضاً سيكتشف أن المؤلف لم يقصد كلمة ( تفاهة ) حرفياً أبداً وإنما المترجمة لم تكن دقيقة بما فيه الكفاية فآلان دونو كان قد كتب هذا الكتاب بالفرنسية والمترجمة استعانت بالنسخة الأصلية الفرنسية اضافة الى النسخة المترجمة الى الانجليزية، والكلمة التي وضعها آلان هي Mediocracy وهذه الكلمة لاتعني التفاهة وانما الشيء المتوسط المتواضع، أي الشخص الذي لا يمتلك كفاءة عالية ولكن في الوقت نفسه ليس سيئاً، والمؤلف أكد على هذا المعنى، ففي الصفحة 90 يقول : إن Mediocrity هو الاسم الذي يشير الى ما هو متوسط تماماً مثل ما تشير كلمة Superiority الى ما هو أعلى و Inferiority الى ما هو أدني، وبالتالي فالمؤلف حين كتب في العنوان Mediocracy فهو يحدد المتوسط بين الأعلى والأدنى، ويستشهد بمبدأ بيتر في صفحة 75 للتدليل على قصده بمتوسطي الكفاءة وليس التافهين الذين هم في المرتبة الدنيا، ويقول أن مبدأ بيتر يتيح للموظف متوسط الكفاءة وبحسب نظام العمل أن يترقى تدريجياً حتى يصل الى رأس الهرم ويشغل مناصب عليا في السلطة ويزيح من هم أعلى كفاءة منه وأكثر استحقاقاً. ومن هنا نفهم أن المؤلف لا يتحدث عن التافهين بل أصحاب الكفاءة العادية وكيف يساعدهم النظام على الوصول الى أعلى المراتب وحرمان من هم أفضل منهم، ويبقى السؤال لماذا اختارت المترجمة هذه المفردة؟ قد يكون السبب تسويقي فإذا كان كذلك فقد نجحت من دون أدنى شك. في الصفحة الأولى يهاجم المؤلف الجامعات لأنها في النهاية تعطي شهاداتها لكل من يتجاوز الاختبارات النهائية. يضرب آلان مثالاً على أساتذة الجامعة، يفترض وجود أستاذ لا يحقق المهام المطلوبة منه وكل تلامذته متأخرين في مستواهم التعليمي، فبالتأكيد هذا الاستاذ سيتعرض للفصل وهذا أمر مفهوم ومفروغ منه، وعلى الجانب الأخر وربما في الجامعة ذاتها يوجد أستاذ يتمرد على البروتوكول الذي تضعه المؤسسة التعليمية لجميع الاساتذة، ويحقق نسب نجاح عالية، ويؤهل طلابه الى أعلى المستويات، هذا الأستاذ سيتعرض أيضاً للفصل لأنه تمرد ولم يلتزم بتعلميات الجامعة وهو بذلك أربك العملية التعليمية من وجهة نظر المؤسسة، على سبيل المثال ماذا لو استطاع الأستاذ عالي الكفاءة بتعليم طلابه منهج مرحلتين في سنة واحدة واجتاز الطلاب كل الاختارات وبتفوق، هنا ستجد المؤسسة التعليمية نفسها بموقف حرج، فعليها أن تضع منهج تعويضي للسنة القادمة، وبالتالي ستجد نفسها أمام قيمتين، الأولى أستاذ عالي الكفاءة وطلاب متفوقين اجتازوا منهجين في سنة واحدة، والثانية نظام تم الاخلال به وعليها وضع منهج تعويضي لا يستطيع كل الأساتذة الالتزام به، بطبيعة الحال ستنتصر الجامعة لنظامها وتمنع هذا الأستاذ من ممارسة التدريس بطريقة ذات جودة عالية وسيكون من وجهة نظرها أن الأستاذ متوسط الكفاءة الذي يلتزم بالمنهج ويحافظ على تفاوت في درجات الطلاب أفضل من الأستاذ عالي الكفاءة، وعليه سيتم ترقيته بصورة أسرع وسيصل الى رأس الهرم يوماً قبل الأستاذ عالي الكفاءة الذي سيظل بيعداً عن السلطة أو أنه سيجد نفسه مرغماً على الانضمام الى فئة الأساتذة متوسطي الكفاءة ويساير النظام، فالمقياس هنا الحفاظ على النظام وليس الكفاءة وهذا هو الـ Mediocracy ويرى المؤلف أن النظام الرأس مالي هو من يقف وراء هذه الأنظمة، كالمستشفيات التي تكافئ أطبائها الذين يكتبون أدوية لا يحتاجها المريض لصالح أرباح المستشفى وشركات الأدوية، أو محصلي الضرائب الذي يسعون وراء البسطاء لاستحصال الضرائب لتحقيق المزيد من الدخل وترك مؤسسات ضخمة وشركات مخيفة لأي سبب من الأسباب. ويركز آلان على الجامعات ويرجع لينتقدها بقوله أن الجامعات وبسبب التخصصات الدقيقة جداً وتركيزها على دقائق كل تخصص على حدة هي بذلك تخرج خبراء وليس مثقفين وذلك تلبية لاحتياجات سوق العمل وهذا على حساب التفكير النقدي، فالمثقف وإن تخصص بمجال معين إلا أن لديه الأدوات التي تؤهله لربط مجاله بمجالات أخرى. يرى آلان أن حصر الطلبة في مسارات تعليمية معينة بعيداً عن المسارات الأخرى سيجعله سلعة بيد الشركات التي تمول الابحاث والجامعات نفسها، ومع تطور الذكاء الاصطناعي قد يجعل الكثير من الطلبة يواجهون مستقبلاً مجهولاً، لأنه مقيد بمجال واحد إذا حل الذكاء الاصطناعي محله سيجد نفسه عاطلاً عن العمل. على سبيل المثال شركة كوكاكولا تمول أبحاثاً تثبت أن الكوكاكولا لا تسبب السمنة أو بعض شركات الأدوية تمول أبحاثاً للتخفيف من الأعراض الجانبية لأدويتها..الخ فالنظام الرأس المالي هو الذي يرجح المال على القيم العليا. الكتاب اكتسب شهرة عالمية، لكني أرى أنه لا يستحق كل هذه الشهرة، فمن ثلاث مائة وثلاثين صفحة لا توجد إلا مائة أو أقل هي المهمة، لغة الكاتب غير واضحة، المقدمة طويلة ومملة ولايحتاجها القارئ وتقع في ستة وستين صفحة. هناك كتب تحمل نفس الأفكار وتعد أهم من كتاب آلان دونو أبرزها كتاب عقيدة الصدمة للمؤلفة الكندية أيضاً ناعومي كلاين، فلغتها كانت أفضل من آلان وركزت على تأثير المال على السياسة والكتاب لا يتطلب من القارئ معرفة كبيرة بالاقتصاد والسياسة فهي تبسط المعلومات بشكل جميل ومشوق حتى أن آلان نفسه امتدحها في كتابه.