إذا تألمت لألم أبنا شعبك فأنت نبيل, اما إذا تفانيت في الدفاع عنهم فأنت عظيم
كاظم فنجان الحمامي
لا يوجد في الوطن العربي كله قوم يمرون بمحنة واحدة, يتكلمون بلسان واحد, يأكلون طعام واحدا, يسكنون بيوت موحدة, في مدن مستنسخة متناظرة متماثلة, مثل فقراء الشعب العراقي, الذين يمثلون الأغلبية الغالبة المغيبة. نحن هنا نعد طعامنا بالطريقة نفسها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب, نأكل من صنف واحد, فأطباق الطماطة والباذنجان المقلي والبطاطة المسلوقة هي القاسم الغذائي المشترك بيننا, وتبقى الكبة والكباب واللحم بعجين والدولمة والكفتة ومرقة الباميا والبرياني والمحشي والقوزي والسمك المسقوف هي الأصناف المفضلة في موائدنا, التي يتصدرها خبز التنور المكسِّب في تنانير الطين المبنية في باحات منازلنا أو فوق سطوحها.
نتحدث بالفطرة بلهجة عربية دارجة, تشوبها بعض المفردات الكردية والسومرية والأشورية والبابلية والكلدانية الجميلة, نرتدي الثياب نفسها بأزياء وألوان وتصاميم موحدة, نمارس في الأفراح والأتراح بعض التقاليد والعادات المشتركة, نؤدي الطقوس نفسها, ننحدر من القبائل العراقية المتجانسة المتآلفة في نسيج اجتماعي متماسك, لا فرق في تراكيبنا القروية والمدنية والبدوية بين أبناء كربلاء وأبناء سامراء, ولا اختلاف عندنا بين أهل الأنبار وأهل الأهوار, كلنا من جنس واحد, ولنا نفس الملامح في الوجوه والتجاعيد والسحن الحنطاوية, ويكاد يكون اللون العسلي الغامق هو اللون السائد في عيوننا.
مناطقنا السكنية. . . فوارق معدومة
اما مناطقنا السكنية ففيها من التطابق والتناظر ما يذهل العقول, وربما يتعذر على المرء رصد الفوارق بين قرى محافظة ذي قار وقرى محافظة واسط, أو قرى ميسان, فالفوارق تكاد تكون معدومة, وهكذا الحال بالنسبة للأحياء السكنية في ديالى وبابل والبصرة والمثنى والقادسية, كلها متناظرة بطريقة تبعث على الدهشة والطرافة, لأنها تتشابه في كل شيء ابتداء من الطرق والشوارع المغطاة بالرمال والأتربة, إلى طريقة توزيع الأعمدة الناقلة للطاقة الكهربائية, مرورا ببرك المياه الآسنة المنتشرة في الساحات والأزقة, حتى إن مكبات القمامة (أعزكم الله) تكاد تكون نفسها من حيث التراكم والتعفن والانتشار, فما تجده في (البطحة) خارج مركز محافظة المثنى, تجده في (الغراف) خارج مركز ذي قار, وتجده في (المجر) خارج مركز ميسان, وتجده في (الفاو) خارج مركز البصرة. .
مدن الزي الموحد
فالزي الموحد باللون البيجي, أو (الخاكي), أو الترابي, أو الرملي, أو (الطيني) هو الزي الذي ارتدته المدن والقرى العراقية, وهو العلامة الفارقة في كل مواسم العصر الجلكاني, الذي توحدت فيه مجاري الصرف الصحي, فتوقفت عن الجريان في (بدرة وجصان) وتشعبت في (الشعيبة), واختنقت بدخان مدينة (الشعلة) ببغداد, وأصيبت بكولسترون الأطيان في النعمانية بالكوت, والتهبت مجاريها في الرميثة, وانسدت في سدة الهندية, وتعطلت في حي (أور) في الناصرية, حتى يخيل إليك إنها تنتظم في مصفوفة سكانية تتكرر فيها المشاهد واللقطات بطريقة رقمية تبعث على القرف, وخير مثال على ذلك: هذه الصور التي التقطناها من دون أن نشير إلى اسم القرية, تاركين حرية التعرف عليها لمن يرغب في خوض هذه الامتحان الصعب, إذ يتعذر معرفة فيما إذا كانت هذه اللقطات أخذت في مدينة (الزبير) بالبصرة, أم في مدينة (الصالحية) بالناصرية, أم في (أبي غرق) ببابل, أم في (الحي) بواسط, أم في الحي العسكري بالنجف, أم في (صبخة العرب), و(العالية) بالبصرة, أم في حي (الغدير) بكربلاء, أم في حي (الشهداء) في الفلوجة, أو الحي الصناعي هناك, أم في أحياء بغداد مثل: (العبيدي), و(سبع البور), و(الفضيلية), و(النهروان), و(الكمالية), ومنطقة (الشيشان) الواقعة في نهاية حي (الشعب) ؟؟, كلها سواء في اللون (الأملح الترابي) الطاغي على جدران البيوت, أو في أشكالها البائسة, أو في الأصوات المنبعثة من المولدات الكهربائية, أو في تشابكات الأسلاك في كل الاتجاهات, أو في الغبار المتطاير, أو في سحب الدخان الأسود, أو في نوعية المطبات (الطسّات), أو في مشاريع الحفر, التي مزقت جسد كل مدينة بالطول والعرض, فوحّدتها مع بعضها البعض, حتى إن الكراجات, والمدارس, ومراكز الشرطة, والعيادات الطبية, ومقرات المجالس البلدية, وساحات كرة القدم, ومحطات تعبئة الوقود تشابهت إلى حد بعيد, وكأنها صنعت في قوالب متماثلة في معامل الجمود والإهمال. .
مفارقات عجيبة
من المفارقات العجيبة نذكر: ان حي (الجمهورية) في النجف يكاد يكون صورة طبق الأصل من حي (الجمهورية) في البصرة, من حيت التركيبة المتداخلة, والجدران المتشققة, والأسلاك المتقاطعة, والأزقة القذرة, ومن حيث التجاوزات العشوائية التي تكاثرت بعد تفشي ظاهرة (الحواسم). .تتكرر صورة الأسواق التابعة للأحياء السكنية الموحدة, حيث يلهو الذباب نفسه, وتنبعث الروائح نفسها, فالواجهات تعكس صورة واحدة متكررة, وكذا العربات التي تجرها الحمير, والعربات الآلية (الستوات). .تتراكم خلف كل دكان أكداس من الصناديق الفارغة, والأكياس البلاستيكية, والمغلفات الورقية الممزقة, والبضاعة التالفة المرمية منذ أسابيع في الزوايا الرطبة, فتتحول في الليل إلى ولائم مباحة للكلاب السائبة (المستنسخة), والقطط الضالة, والجرذان المحصنة جينيا ضد كل أنواع المبيدات الكونية, وهذه هي ظروفنا التي صبرنا عليها بانتظار الفرج الذي طال انتظاره. .
نقمة المحاصصة الطائفية
لكننا وعلى الرغم من تنوع مذاهبنا وتعدد طوائفنا الدينية, التي تنتمي إلى فسيفساء الملل والنحل منذ القرن الهجري الأول وحتى يومنا هذا, كنا نتعايش في تواد ووئام وتلاحم, ولم نكن تهزنا بعض السلوكيات الطائفية الشاذة التي نسمع بها من هنا وهناك, حتى جاء اليوم الذي هبطت فيه علينا (نقمة) المحاصصة الطائفية, وصار التطرف الطائفي هو المعيار الأساس في تقييم الأداء السياسي, وهو المقياس في ضمان الفوز بالانتخابات, وظهر علينا أبطال التراشق الطائفي, والتناحر المذهبي, وتسللت إلينا النعوت والمسميات العنصرية السخيفة, التي يتشدق بها بعض المحسوبين على الثقافة والإعلام, فصنفونا إلى فئات عرقية غريبة, هذا (شروكي متخلف), وهذا (مصلاوي متعجرف), وهذا (دليمي متحجر), و(بغدادي متكبر), في حملات مبرمجة يقودها السفهاء والمتواطئين مع قوى التقسيم والتشرذم, فنسمعها منهم بصيغة النكتة والدعابة المسمومة. .نقرأ أحيانا بعض المقالات التي يكتبها بعض الذين يحملون درجة الدكتوراه في ثقافة (الماكو), فنتعجب من تفاهتهم وخستهم وهم يمعنون في تصنيفنا وتشتيتنا إلى أقسام وشعب وعوائل ومجاميع عرقية وطائفية ومذهبية وعنصرية وفئوية, لكننا على يقين تام: ان الذين تطاولوا علينا, وتجاسروا علينا, واشتركوا في حملات التفريق والتمزيق لا ينتمون إلينا البتة, فهؤلاء ليسوا منا, ولم يكونوا عراقيين في يوم من الأيام.