لا يشك اثنان في إن الإرادة الإيرانية هي التي جعلت هادي العامري وقيس الخزعلي ونوري المالكي وباقي جماعة الإطار التنسيقي يتغيرون بين ليلة وضحاها، فيَجنحون للسلم، ويُصبحون مواطنين وطنيين ديمقراطيين يتقبلون قرار المحكمة الاتحادية بأريحية، ويحترمون العلية الانتخابية، وذلك بسبب حرصهم الشديد على الالتزام بالدستور والقانون وخوفهم على استقرار العراق أمنياً وسياسياً، وإيماناً منهم بالعملية السياسية ومسارها الديمقراطي من خلال التبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات. كما ورد في بيان هادي العامري.
وكأنهم ليسوا هم الذين عبثوا بأمن الوطن والمواطن، ومكثوا، منذ إعلان نتائج الانتخابات وإلى يوم تصديق المحكمة الاتحادية عليها، ثمانيةً وسبعين يوماً بالتمام والكمال، وهم متنمّرون، مستأسدون، أشداء، يشاكسون ويشاغبون، ويهددون القضاء والحكومة والفائزين في الانتخابات، ويرسلون المسيَّرات لاغتيال رئيس حكومتهم والقائد العام لقواتهم المسلحة لأنه دبر الانتخابات، ويصرون على إلغائها أو تعديلها، ليعودوا كما كانوا، أسياداً يتحكمون بالحكومة والشعب والبرلمان والجيش والقضاء، ويتصرفون بوزارات المالية والخارجية والداخلية، كما يشاؤون.
وهنا يحق للمواطن العراقي أن يتساءل، هل هذا يعني أن إيران التي أمرتهم بأن يَحنوا رؤوسهم للعاصفة قد تغيَّرت، فعلا، وأصبحت عادلة وعاقلة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بأن احتلالها قد آن أوان رحيله، وأن عليها أن تعود كما كانت، قبل سنوات الغزو والاحتلال، دولةً جارة مسالمة تحترم الجيرة، وتراعي سيادة الدولة العراقية الوطنية واستقلالها وكرامة شعبها، وتترك قيادة السفينة لخصومها الذي طفح كيلهم منها ومن وكلائها الفصائليين والحشديين؟؟.
فليس هناك عراقي واحد يجهل طبيعة النظام الإيراني الذي عوّده، على مدى ثماني عشرة سنة، على عنجهيته وعدوانيته واحتقاره لجميع القواعد والأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، والكذب والغدر والرياء.
ولكن ظرفها الدقيق الحالي، وانشغالَها بمعركة رفع العقوبات ونجاح مفاوضاتها النووية، هما العاملان الوحيدان اللذان جعلاها تفضل اختيار التعامل مع المشكلة بنعومة ودم بارد.فهي لا تريد وكلاءَها، بعنادهم وتعدياتهم وتصرفاتهم التي وصفها قائد فيلق القدس المكلف بالملف العراقي، اسماعيل قاءاني بـ (التافهة)، يشعلون حربا لا تريدها ولا هي مستعدة لخوضها الآن وتحمُّل تبعاتها.
وواهمون المتفائلون الأمريكيون والعراقيون الذين اعتبروا رد المحكمة العليا دعوى الإطار التنسيقي بداية لنهاية النفود الإيراني في العراق. فإيران لن تترك العراق بأي حال من الأحوال.وأغلب الظن أنها ستلجأ إلى الحرب الناعمة مع التيار الصدري ومؤيديه ومناصريه.خصوصا وأنها تعرف أن حكومة الأغلبية الوطنية التي يريدها مقتدى لن تكون، في أحسن أحوالها، أكثر من شكل مُحسَّن من حكومات (المحاصصة) السابقة، ولن تقوم لها قائمة إلا بترضية الأحزاب والائتلافات الفائزة. وهنا مربط الفرس.
وتأسيسا على هذا فإن الكتل السنية والأحزاب الكردية، في البرلمان الجديد، لن تتحول إلى كيانات ملحقة بالتيار الصدري، ومعارِضة للوصاية الإيرانية وأحزابها ومليشياتها.وعليه فأي قرار برلماني يريد التيار الصدري تمريره، خصوصا إذا كان يتعلق بسحب سلاح الفصائل، وإعادة ترميم الحشد الشعبي، ومحاكمة كبار الفادسدين، ستُغرقه إيران وأنصارُها وحلفاؤها في المماطلات والمماحكات والاعتراضات التي لا تنتهي.
ومن هنا ستبدأ رحلة الفشل المنتظرة القادمة التي سيرغم مقتدى على تحمل تبعاتها.وقد حذر حسين العقابي، النائب السابق عن كتلة (النهج الوطني) المنضوية ضمن (الإطار التنسيقي)، من تفرد طرف شيعي واحد بتشكيل الحكومة وإقصاء الآخرين.وقال العقابي في حوار تلفزيوني، إن “أي طرف ينفرد بالمناصب، سوف يسبب له الطرف الآخر مشاكل عميقة، وهذا غير مقبول في الأوساط الشيعية”.وتابع “قائلا، إن: “واقعنا العراقي ليس فيه أغلبية سياسية، إنها غير ممكنة، وإنّ تفرد طرف شيعي بالسلطة والذهاب نحو السُنة والكُرد سيكون إقصاءً للآخرين، ويُعمق المشكلة”.
ولكي يتفادى مقتدى العودة إلى التوافق مع (أشقائه) أعضاء البيت الشيعي فإن عليه أن يضمن ولاء الكتل السنية الفائزة والحزب الديمقراطي الكردستاني، بشكل واضح ونهائي وصريح. وهاتان عقبتان كبيرتان ستُعيقان مسيرته، وقد تعيده إلى مربع المأزق الأول، من جديد.فهو إذا تحالف مع أحد الائتلافيْن السنييْن، ائتلاف محمد الحلبوسي وائتلاف خميس الخنجر، فسوف ينسف مقولته بخصوص المحاصصة، والولاء الخارجي. خصوصا وأن التحالفين موجودان، الآن، في دولة عربية من أجل حسم الخلاف بينهما حول رئاسة البرلمان المحجوزة للمكون السني وفق نظام المحاصصة الذي وعد مقتدى بعدم العودة إليه.
ونقلت السومرية عن مصدر مطلع في تحالف (عزم) المملوك لخميس الخنجر، قوله، لقد “نحن في (عزم)، قياديين وأعضاءً فائزين، نؤكد أن رئاسة مجلس النواب حُسمت (إيرانيا) لصالح تحالفنا، بدعمٍ من مكونات الإطار التنسيقي”.أما بخصوص التحالف مع المكون الكردي، فإن عليه أن يموافق على مطالب مسعود البارزاني الباهظة.وأول هذه المطالب إبقاءُ رئاسة الجمهورية ضمن نظام المحاصصة، ثم اعتبارُها، هذه المرة، من حصته وليست من حصة غريمه الاتحاد الوطني الكردستاني.
وليس هذا فقط، بل إن على مقتدى أن يجعل كتلته النيابية تصوت بالموافقة على تعيين هوشيار زيباري رئيسا للجمهورية، خلفا للدكتور برهم صالح.وهنا هو الحرج الكبير. فمقتدى قبل غيره يعلم بأن هوشيار بدأ حياته العملية بالغش. فقد انتمى إلى الجامعة الأردنية عام 1976 باعتباره من (عرب) الأحواز، وهو ليس كذلك. ثم إنه مطرود من وظيفة وزير المالية بقرار من البرلمان في 2016 بتهم فساد واستغلال نفوذ. فكيف يوافق على أن يضعه بديلا للرئيس برهم صالح الذي أثبت، بالوقائع والأدلة، وطنية خالصة، ونزاهة وكفاءة، وهيبة لا ينكرها أحد؟.إذن، فسيبقى الحال على حاله، وستبقى المليشيات، والمحاصصة، والاختلاس، والعمالة، والاحتلال.