بافل طالباني، رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ثاني أكبر الأحزاب الكردية في العراق، وصل إلى مبنى البرلمان بملابس النوم، مرتديا “تي – شيرت”، وحذاء رياضيا، لكي يُسلّم على “عمه” (زوج عمته) الرئيس الجديد عبداللطيف رشيد. وبما أن القصة، هي قصة علاقة أسرية، فإن المجيء إلى مبنى البرلمان العراقي كان يجب ألا يختلف كثيرا، من ناحية “القيافة”، عن الذهاب إلى الحمام.
الملابس الشعبية الكردية في غاية الجمال. أنيقة ومريحة وتتحدى الصعاب. إلا أن الشاب “الحداثي” اختار أن يتخفف من أعباء التقاليد الشعبية.الصدريون فعلوا أكثر من ذلك. إذ حولوا البرلمان إلى مطعم وفندق شعبي و.. حمامات، لأبناء الشعب، الذين صاروا يطبخون وجباتهم على جوانب المبنى، ويوزعون صحون “التمن والمرق” على الذين اتخذوا من الطاولات البرلمانية أسرّة للنوم المريح.
“خان شغان”، بالمعنى العراقي هو البرلمان الذي لا تحتاج، لكي تكون عضوا فيه، أن تراعي اللياقة أو “الإتكيت”. فهذه أمور عادة ما تتعلق بالتقاليد، والعراقيون شعب لا علاقة لهم بالتقاليد البرلمانية. لم يعرفوها من قبل. وظل مما يثير الحيرة في برلمانهم الأول، بالنسبة إلى بعض النواب، هو كيف دخلت الطاولة العريضة من ذلك الباب الضيق، أو كيف تعلقت ثريات على السقف وهي أكبر من كل باب. أما برلمانهم الأخير، فقد كان من طبائع الأمور أن يتحول إلى مكب لرمي الأوساخ، لأنه في الحقيقة ليس أكثر من ذلك. فالديمقراطية الطائفية تعني أن ترسل كل طائفة ممثلين عن أقذر ما فيها إلى هذا المكان. وليس من العجيب أن يُسرف الصدريون، وهم من أبناء هذا الشعب العريق في الممارسات ما قبل الديمقراطية، في أن ينسحبوا من البرلمان، وأن يفعلوا أفاعيلهم الحيوية فيه وعلى من ورثه.
لقد كان ذلك هو الشيء الطبيعي. كما كان من الطبيعي أيضا، أن يتم انتخاب حكومة يقول إطارها التنسيقي إنها تسعى لإجراء “انتخابات مبكرة” في غضون عام، ويقول رئيسها إن حكومته، سوف تقوم “بمعالجة الفقر والبطالة والتضخم والانفلات الأمني وتراجع التعليم والصحة وانعدام الخدمات”.ولا تعرف مَنْ يجب أن تُصدّق. فحكومة بعام واحد، لن تقدر أن تعمل عشر معشار ما وعدت به. ولو شاءت عمله فإنها في حاجة الى ربع قرن من العمل الصالح، ومن دون فساد، فكيف إذا كانت حكومة مكتوبا على يافطة مقراتها: مجلس الوزراء، لصاحبه نوري المالكي.
العراق ليس جديرا بالديمقراطية. هذا استنتاج غير متأخر. ولقد دلت عليه تجربة الأعوام ما بعد الاحتلال بكل الأمثلة الممكنة. بل وبأكثر مما يحتاجه العراقيون لكي يتيقنوا أنهم لم يُرسوا أسسا للديمقراطية، ولم يفهموا معانيها، وما يزالون بعيدين كل البعد عن بناء مقوماتها وتقاليدها.
أعمال الفساد التي طغت على كل البرلمانات التي نشأت تحت مظلة الاحتلال الأميركي، فالإيراني، لم تعد مجرد شبهات أو اتهامات بلا أدلة. من شراء المقاعد، إلى شراء صناديق الأصوات الجاهزة، إلى بيع كل جولة من جولات التصديق على أيّ مشروع قانون أو اتفاق.وظل البرلمان منبرا للصفقات القذرة بين الكتل والنواب منذ أول تلك النشأة، حتى أصبح أقذر من حمام عمومي بلا أنابيب تصريف. ومنه تنشأ الحكومات، وفيه يتم إنفاق الأموال، على مشاريع المحاصصة، وتقاسم المصالح والامتيازات.أكثر من نصف المؤهلين للتصويت، لم يشاركوا في الانتخابات لأنهم يعرفون سلفا أي برلمان سوف يكون، وأي حكومة سوف تنشأ عنه.
هم يعرفون أيضا، من هي القوى والأطراف التي تلعب أدوارا في صناعة الأقدار والمصائر في البلاد. وكيف انتهى كل شيء إلى الخراب.لا شيء غامضا. كل شيء مكشوف، ويجري الحديث عنه جهارا نهارا. فلا الذين يدفعون الثمن من حياتهم يخافون من كشف الحقيقة. ولا الذين يرتكبون الجرائم يخافون أيضا. وبات من السهل حتى على أعتى الفاسدين أن يرفعوا شعارات لمكافحة الفساد.الكل يفهم أن النفاق نفاق، وأن الوعود ليس لها ما بعدها، وأن أحدا لا يدقق في النتائج، وأن الكلام يُباع لكي لا يكون له معنى، وأن شطارة الشاطر منهم هي أن يملأ سلته بالسحت المتاح.
ما هو غير غائب عن الأذهان، هو أن العراق قد لا يكون في حاجة إلى العودة إلى سلطة العنف والاستبداد، إلا أن تجربته الراهنة مع “الديمقراطية” تجعل هذا الاستبداد مقبولا، وأكثر رحمة ورأفة بالناس.ولقد تقطعت الطرق حتى على العودة إلى الاستبداد. وهذا ما أصبح جزءا من المأساة، حيث تعيش البلاد في حفرة، لا الديمقراطية توفر مخرجا منها، ولا التظاهرات السلمية، ولا الانقلابات.
الإحاطة التي قدمتها ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة جينين بلاسخارت أمام مجلس الأمن الدولي مؤخرا عن المخاطر التي تهدد العراق، قالت إن البلاد سائرة إلى الهاوية ما لم تتوصل الأطراف المعنية إلى تسوية خلافاتها والاتفاق على مخرج من المأزق.كل ما حدث بعد ذلك، هو أن جماعات الفساد والولاء لإيران اختارت أن تقطع الطريق على الحوار. قطعه قبلها “التيار الصدري”، ليتيح لها فرصة مجانية للعودة إلى مربع الفساد والتبعية الأول، بحكومة تنتظر “انتخابات مبكرة” من جهة، وتعد بتبليط البحر من جهة أخرى. ولن يتحقق هذا ولا ذاك.
كيف يمكن لهذا البلد ألا يكون برلمانه أكثر من “خان شغان”؟ كيف لا يكون زريبة فساد؟ وبأي معنى من المعاني يمكن أن تتوفر لدخول قاعاته، أو للعمل فيه، أي تقاليد؟ وكيف لا يُزار رئيسه بـ”تي شيرت” وحذاء رياضي؟ ما الذي حل بذلك الشيء الذي يُدعى “بروتوكول”؟أليس هذا دليلا كافيا على أننا همج، رعاع، عيارون وشطار كما كنا قبل ألف عام؟
يحسن بالعراقيين، على أي حال، أن يفهموا، أن العار عارهم، وأنهم بدائيون، وأن نوري المالكي وأقرانه وحكومته وأتباعه، هم عراقيون أيضا، ولو كانوا خونة لقطرة الماء التي يشربونها في هذا البلد.الحرب الأهلية، قد تكون هي الحل الأمثل، بحسب بعض الرأي، لتكون بمثابة حمام غسيل شامل. ولكن لا مفر في النهاية من أن تعثر البلاد على سبيل لبناء أعراف وتقاليد وقيم.بحرب أهلية لأغراض الغسيل الشامل، أو من دونها، فإن بناء تقاليد وأعراف على أسس احترام القانون والقول والوعود واللياقة وحسن التصرف، هو البداية الصحيحة.